Pages

دليفري للبهوات

Sunday, December 26, 2010

كاتبو الخطابات

كنت أعتقد دوما أن إرسال شخص ما خطاب إلى كاتبه المفضل أو المطبوعة التي يهواها هي خطوة تحتاج إلى خلل نفسي ما في هذه الشخصية، بريد القراء حافل بالنماذج الإنسانية بالغة الغرابة،لكن خطوة التعبير عن الرأي لشخص أو جهة غير محددة تحتاج فعلا أن يكون المُرسل بعيدا إلى حد ما عن حقائق الحياة البسيطة، وهي أنه يرسل رأيه إلى فضاء واسع وبعيد،وفي الفضاء لا يسمع أحد صراخك.

بينما أفكر في هذه المدونة، كنت أقلب في مواقع الجرائد اليومية، وعادة ما تعتمد وجبتي الرئيسية على مقالات الكتاب، عادة ما أراجع تعليقات القراء بحثا عن رأي إضافي أو لاستكشاف رأي الجماعة في الموضوع، اليوم وجدت أحد أهم التعليقات التي تبرز الخلل النفسي الذي أراه: رجل يعترض على تأخر جريدة الشروق عن نشر تعليقاته، وهذا كثيرا ما يحدث بسبب عجز إداري بالموقع، المهم أن الرجل يعلن أنه معتصم هاهنا الآن بهذه الصفحة اعتراضا على المعاملة السيئة، ولم يحدد كيف يمكن للموقع أن يرد له حقه، ثم استطرد بإنه سيقلع عن التعليق عقابا للموقع، رغم أن التعليق يظهر منشورا الآن، لكنه في الغالب سيقلع عن إقلاعه بمجرد ملاحظته هذا.

النماذج لا تنتهي،في مجلة سينما جود نيوز اعتاد أحدهم أن يرسل خطاباته المخلصة على ورق كراسة من النوع الذي كنا نتسلمه أيام المدارس الأميري، واعتاد وائل حمدي مدير التحرير وقتهاأن يحتفظ بهذه الخطابات النادرة التي لم تكن تحمل أي توقيع، ثم في مرة نشر تنويهاعنها في ملف عن أبرز الخطابات التي وصلتنا، وبعد أن سنوات غادر حمدي المجلة وتسلمت بعده باب البريد، وأجدهم يدفعون لي بخطاب يحمل البصمة الورقية إياها، لكن هذه المرة يعلن اسمه ويعترف باللعبة العجيبة التي مارسها طوال الوقت مع حمدي، ثم يطالب باشتراك مجاني في المجلة.. لعله أدرك من نفسه أن اللعبة قد انتهت بتغير طرفها الثاني.

أحيانا تندهشعندما تجد تعليقا إلكترونيا يُبلغ عن انفجار أنبوب مياه بينما المقال الأصلي عنالسياسة، وفي مرة أعطاني محرر تحقيقات خطابا ورده من شخص يدعي أنه محافظ الفيوم وأنه لواء سابق وينتسب أصله لمحمد علي باشا ويبدو من خطابه أن ثلاثة عقول اشتركت في كتابته بالتوازي. قلت للمحرر صديقي أن يحتفظ بهذا الخطاب لأنه تحفة إنسانية أصلية عن الخلل النفسي الذي أعنيه، بل أنني رجوته لاحقا أن يعطيني نسخة من هذه التحفة.

مع بزوغ فجر مهمة التعليق،ظهر للأمر فائدة لا يمكن مقاومتها، فحتى لو لم تكن تتمتع بالخلل إياه، فيمكنكممارسته مؤقتا لتفريغ طاقتك، يمكنك مثلا أن تمارس أقصى قدر من الخطورة مثل المعلق الذي كتب أسفل أحد أخبار الرئيس "لو كان مبارك رجلا لقتلته"، وهو تعبير بارع لكنه لم يبرد نار صاحبه فكتب في السطر التالي "يا مبارك يا ابن الـ..... "،غالبا سيشعر هذا المعلق بإثارة بالغة تدفعه لمغادرة الشبكة أياما وأسابيع، وهو يظن أن أمن الدولة تقلب المواقع بحثا عنه (هم يراقبون معظم شبكتنا بالفعل لكنهم يتمتعون بنفس غباء موظفي البلديات). الأمر كما لو أنه صرخ بأعلى صوته أمام مرآة الحمام المغلق جيدا، وكما يقول واحد من أصدقائي: الرجل ذو اللحية البيضاء الذييكتب التاريخ لن يقلق نفسه بتسجيل سيرتك عندما تكون تافهة بالفعل.

الآن، وفي خضممعارك التغيير والتوريث والتسليم بالحكمة الحاكمة، ظهرت مهنة جديدة في مساحات التعليق: المعلقون الخاصون. أشخاص يتولون الدفاع عن هيئات معينة وأشخاص نافذون، ينتحل الواحد منهم عدة أسماء في الصفحة الواحدة، وأحيانا يكون الهدف هو مجرد الرد على ما يدعيه الكاتب، أو الرد على مؤيديه، أو حتى إثارة صراعات جانبية تتجاوزالموضوع الأصلي لتجنح إلى وصلات شتائم حلقية لا تنتهي. بالأمس قابلت واحدا منهؤلاء.

المكان كان بأسفل مقال للسفير السابق إبراهيم يسري في جريدة الشروق، يشرح فيها عدم خضوع وزارة البترول لأحكام القضاء بشأن تصدير الغاز لإسرائيل، وعلاقة هذا بانقطاعات الكهرباءالمتكررة. عادة لا يثير السفير يسري قدرا كبيرا من التعليقات، لكني وجدت دستة منها تهاجمه بوصفه مجرد سفير يدعي الخبرة بشؤون البترول، وأنه يسعى للدفاع عن وزيرالكهرباء، وأنه هو الذي لا يحترم أحكام القضاء.

ما رأيته لم يكن كافيا لدفعي إلى التعليق، فالرجل رد بأدب على منتقديه وقال أن هناك خبراء غيرهيهتمون بالقضية، الحقيقة أنني كنت في ذات المزاج المختل الذي يدفع الناس لإرسالالخطابات إلى محرر البريد على ورق منتزع من قلب كراسة قديمة. كنت أيضا منتشياباكتشاف صغير، فبعد مراجعة ما كتبه منتقديه، وجدت أن التعليقات كلها ترجع لشخص واحد، اثنين على الأكثر.

تكون مهمة الكتابةشاقة للمبتدئين، كلنا كنا نركز في كل حرف لنا ونحن بجملنا الأولى، بعد مدة، يصبحالهاجس المسيطر على الكاتب هو ملاحقة أفكاره المتصارعة وتركيزها تاركا المهامالأساسية إلى جزء جانبي من عقله، ولهذا فإن لكل كاتب بصمة مصدرها هذا الجزءالجانبي: استخدام الفصلات، الهمزات، النقاط، العلامات، طريقة التساؤل، ألفاظ معينة، معدل تكرار حرف الجر المفضل، تقديم الفاعل وتأخير المبتدأ. الأهم من هذاكله هو الوعاء الذي يستقي منه التعبيرات والألفاظ، والأخطاء الشائعة إملائياونحويا. وهي كلها دلالات تشير معظمها لصحة استنتاجي. بأنه مُعلق مأجور، وأفترض أنه مأجور لأنه لا شيء يجبره على انتحال عشرات الشخصيات في قضية واضحة لمعظمنا.

ملعبة، بدأت فياستفزاز هذا الشخص، كنت أريد معرفة كيف يتصرف كاتب تعليقات مأجور. يعتمد هذا النوع من البشر على اختفائهم وسط كتلة عشوائية ساخنة من المعلقين المخلصين في اختلالهم،معظم الأخيرين لا يقرأون المقالات جيدا، وهم يرغبون في التعبير عن أنفسهم أكثر من مناقشةالمقال الأصلي، ولهذا تتوجه تعليقاتهم غالبا ناحية سطر معين استفزهم، وفي وسط هذاالجمع الغريب يمكن لأي أحد أن يصنع رأيا عاما بالصفحة إذا شارك بكثافة. يتحدثالسفير عن عدم شرعية بيع الغاز لإسرائيل فينتقد المعلق المأجور عدم كونه خبيرا بتروليا (الحقيقة أنه لا خبرة في مصر بهذا المسمى).

قلت له أنت نرمين ومجدي وعمرو ومصري.. وإلى آخر أسمائك المستعارة، فرد عليّ باسم جديد يتهمني أنا الآخر بترويج الخرافات وعدم الخبرة، مما أسعدني لأن ضربتي وفقت، نقلت ادعائي لمستوى اتهامه بأنه مأجور وأنه يتلقى من أوامره من الوزير، واستخدمت نفس أسلوبه ففتحت معركة جانبية حول شركة افتتحها وزير البترول لتعيين أبناء الكبار فيها، وفعلا جاءمعي في الطريق الجديد وانطلق يدافع عن نموذج الاقتصاد الوطني البترولي، مع نفس الاتهام بعدم الخبرة.

في لحظة ما أمسكت بنفسي وأنا أكاد أسبه بأهله هذا المأجور الجاهل الغبي ابن الـ .....، يتهمني بانعدام الخبرة.. وماذا لو عرف أنني خبير فعلا بشهادتي في الجيولوجيا؟ مقتضيات الحياة الحديثة في مصر أصبحت تغرينا عشرات المرات يوميا بأن نعرف الآخرين بقدرنا وقدراتنا، وكأننا في إشارة مرور ضخمة يكرر فيها الكل سؤال: أنت عارف أنا مين؟

آه، هكذا إذن تتطور المشاجرات أسفل المقالات، تذكرت أن الأمر لعبة، لا مغلوب فيها ولا غالب، فهو سيظل للأبد قارئ السطر الواحد كما تقتضي مهمته، ولن يسجل رجل التاريخ أنني أحرجته أو أنه خرج بدون أن يعرف قدري. في النهاية اشترك شخصان في التصارع على مساحة صغيرةبالفضاء الواسع الذي لم يسمع أحد فيه صراخهما.



No comments: