Pages

دليفري للبهوات

Sunday, November 13, 2011

مذبحة ماسبيرو بالألوان

كان المشهد واضحا: المدرعة تندفع وأمامها 3 أو 4 متظاهرين يحاولون الهرب فلا يسعفهم فارق السرعة ويعرقلهم الاصطدام بمزيد من المتظاهرين، ثم تنقطع اللقطة. كان المشهد واضحا "بالنسبة لي فقط" (حتى أنه لم يدفعني للتعليق)، عرفت هذا عندما سمعته يقول: بص بص واقفين قصاد المدرعة إزاي؟
كنت مستعدا لمناقشته في خطايا المجلس العسكري، عن الاقتصاد وتجويع الشعب، عن الهوية الوهمية التي يتصارع الليبراليون والإسلاميون عليها.. بل كنت مستعدا لمناقشة فشل المتظاهرين في منع المندسين الذين يلازمون كل تجمع. مالم أكن أظنه يقبل المناقشة هو منظر 20 طنا من الفولاذ المجنون تطارد مجموعة من مندوبي المبيعات ومحصلي الكهرباء ومدرسي الفيزياء، ثم وهم يسقطون تحت الآلة المجنونة (أو المصابة بحالة نفسية)، والجنون يعبر فوقهم كمطبات بشرية هينة.. تماما مثل التي المطبات التي نصنعها أمام المدرسة لكي نجبر السيارات على مراعاة حماقة الأطفال.
قضيت الليلة وأنا أفكر أن الأمر كما لو أننا اختلفنا في رؤيتنا للون شيء ما، مثلا هو يرى أن السقف لونه أبيض بينما أنا أراه أزرق (نعم، أعرف أن السقف لا يمكن أن يكون أزرق لكني أجادل)، في هذه الحالة لن يكون لدى أي أحد منا وسيلة لإقناع الآخر. عندما يكون الاختلاف في أوجه الإدراك الأساسية فلا مجال للتفاهم.
ربما يمكننا البدء بنقاط الاتفاق، مثلا أننا نتكلم عن سقف الغرفة (وفي حالتنا الأصلية سنتفق أن أحداث ما حدثت عند ماسبيرو)، لكن بعد ذلك سنتوقف عند حافة إدراكنا المتنافر.
كنت قبلها أفسر الأمر بطريقتنا في التعامل مع الإعلام، فالناس يعطون آذانهم وعيونهم لوسيلة الإعلام التي توافقهم في الرأي، وإذا لم يجدوا واحدة توافقهم فإنهم يذهبون لأي مصدر معلومات لكنهم ينتقون فقط تلك التي تؤيد معتقداتهم. لكني كنت أراهن على أنه لا أحد يقدر على مشاهدة المذبحة ثم يبررها لنفسه بهذه السهولة. في تردي الجثة البشرية صدمة وعقاب ومشاركة لا يمكن لأحدنا الفكاك منه.
لكن يبدو أن شلبوكة وشوبير قاما بعملهما جيدا، ومن قبلهما نظام جعل الكوارث تحدث كلها للآخرين، ومن فوقه دولة تحتقر عقل الفرد وتنتهك جسده. هنيئا لهؤلاء (ولا ننسى أفضال مشايخنا الذين جعلوا جسد المسيحي أقل حرمة من المسلم) فقد تفوقوا على غريزة أساسية تجعل الفئران (على وضاعتها) تشعر بالرهبة لجثث رفاقها.
الآن يمكننا فهم كيف كان أهالي عابدين وبولاق يفكرون وهم يمنعون الغذاء والدواء عن المعتصمين، وكيف كانت عفاف شعيب تضع الكوارع في مرتبة أسمى من أبناء وطنها، وكيف يصر سابيدر على أن كل هذا مؤامرة صهيونية ماسونية.. كل شيء واضح.
إنه مجرد اختلاف في الألوان.

Thursday, November 10, 2011

الحياة ليست ديموقراطية يا غبي

كان صاحبي عبقريا عندما قال إن أسهل طريقة لتفريغ أي شيء من معناه، هو أن تطلق عليه اسما ما، ثم تسهب في استخدام الاسم حتى يضل المعنى طريقه لأصله الأول. كنت أرى أن أول ضربة تلقتها الثورة المصرية عندما حصلت على لقب "ثورة"، الضربة الثانية كانت باستثمار المصدر اللغوي لاختلاق لفظ "ثورجي"، وكأن الثورة مهنة ذات دوام من التاسعة إلى الخامسة.
تذكرت هذا عندما رأيت لفظ "ثورجية" في تعليق لصديق كاتب صحفي يرى أننا انشغلنا بقتال المجلس العسكري وتركنا الشارع للأخوان، بينما قال لي نجم صحفي لامع إننا لم نترك بديلا للناس عندما هاجمنا العسكر على صفحات المدونات الإلكترونية (يا للهول).
الحقيقة أنني لست ثورجيا (وإن كان مظهري يوحي بهذا لأني لا أستمتع بحلاقة شعري ولحيتي)، أعمل في وظيفتين وأحيانا ثلاثة، زوج وأب لطفلين أحدهما كان يعتلي كتفي منذ لحظات، والمفاجأة أنني لا أعرف واحدا من الثورجية المشاهير، وكل من تخطوا الثلاثين في عائلتي كانوا ضد "الثورة" من قبل حتى أن يصبح اسمها كذلك، ويوم موقعة الجمل كنت مرعوبا في منزلي وأفكر أنه لو انتصرت قوات المماليك فمن الأفضل أن أهاجر بأسرتي وأتبول على جواز السفر المصري.
في يوم 28 يناير لم يبدو أحدنا ثورجيا، خرجت في ذلك الصباح مع مدير بشركة أدوية كبيرة، واثنين من زملاء الدراسة لا أتذكر عنهما إلا مطاردة البنات وكسر قلوبهن. في العباسية تظاهر شقيقي الذي فكر منذ سنتين في الانضمام للحزب الوطني لأنه لم يكن هناك شيء آخر يمكن فعله، وفي مدينة نصر خرج 3 من أصدقائي رغم عجزي عن إقناعهم في الليلة السابقة، اثنان منهما كذبا على والدتهما في هذا اليوم.
أتذكر أنني فوجئت عندما قال لي الكاتب الصحفي "أنتم"، حاولت في البداية شرح أنني مثل الجنود المرتزقة (لا تأخذها لفظيا، أنا أكره كنتاكي من قبل الثورة وأرى أنه من الفظاظة أن آكل الدجاج المقلي خارج البيت)، بمعنى أنني أحدد الجهة التي أنحاز لها بناء على معطيات الموقف ذاته، لست سياسيا ولا أتناول الآيديولوجيا في الصباح، ولا أتحكم إلا بجثتي وحدها، فقط أقوم بواجبي ولا أتحدث باسم أحد، وإن كان لا يضايقني أحيانا أن يتحدث البعض باسمي عند إثارة الحس الجمعي.
ضايقتني "أنتم" لأنها ستضعني ضمن فئة محددة، حيث سأكون باغيا لو نصرت فئتي على الدوام، ثم أصبح خائنا لو خالفتها يوما. لكني لم أتضايق كثيرا لأن أحدهم أنعم عليّ بصفة الثورة وضمني لنجومها، ففي الحقيقة أنا معجب بهؤلاء الذين ثبت إيمانهم بأنفسهم وبرفاقهم يوم اجتاحات الخيول الميدان وانهال عليهم الرصاص.
الحقيقة أيضا أنني لست منزعجا من فكرة عزل الثوار عن الشعب "الثائر"، لقد "كنا" هكذا دائما طوال الوقت. أتذكر قريبي الذي قال منذ سنوات إن الناشطات ذهبن إلى سلم نقابة لأنهن يستمتعن بالتحرش الجنسي، وأتذكر أن أعضاء حركة كفاية قضوا سنوات عديدة على كل أنواع السلالم ولم يدفع هذا المواطنين الشرفاء للانضمام لهم (الحق يٌقال: أحيانا كانوا ينظرون باستغراب ثم يسألون عن الساعة وينصرفون)، وفي جمعة الغضب كنا نشير لسكان الشرفات "يا أهالينا انضموا لينا" فأشار أحدهم إلى ابنته الصغيرة بمعنى أنه لن ينزل خوفا على مستقبلها (على أساس أن ابني هو ذكر أميبا وحيد الخلية بلا مستقبل)، لقد نزل منهم عشرات الآلاف يومها (بفضل السياسة الاقتصادية الحكيمة للنظام)، ثم اشترك ملايين آخرين عندما دقت ساعة العمل (والبعض شارك قبل ساعة انتهاء العمل بدقائق). لكن الحقيقة المجردة أن 3 أمثال تلك الملايين كانوا متفرجين أو كارهين لنا.. أو بكل بساطة داعمين للنظام الذي ندعو لإسقاطه لكنهم لم يكونوا محبين له جدا لدرجة قتلنا.
ليس الهدف من هذا أن أذكركم بأن معظم الشعب ابتلع الثورة على مضض عندما بان لهم عناد الثوار وأصبح انتصارهم وشيكا (ها أنا أستخدم الكلمة التي عارضتها في البداية وهذه هي ضريبة الكلام)، بل أذكركم بأننا نزلنا يومها ونحن لا نتمتع بأي فكرة عن العودة سالمين أو ناجحين، ولحسن الحظ لم يطالبنا أحد بأن نلتزم برأي أغلبية الشعب الذي انتخب نوابه قبلها بثلاثة شهور فقط (حتى الآن لم يحاول أحد أن يُبرز دليل تزوير وفساد الانتخابات ربما للمداراة على فساد آخر).. أو ربما كنا أقمنا استفتائا برعاية الحزب الوطني: هل توافق على القيام بثورة؟ نعم/ لا.
والآن يستمتع البعض بتذكيرنا بأننا فقدنا دعم الشارع وأن المظاهرات أصبحت مزعجة للمواطنين الشرفاء. الحقيقة أنني لم أشعر أبدا بدعم هذا الشارع، لم يستغرق الأمر إلا جهد يسير لإقناع الشارع بأن حركة "6 أبريل" تتلقى تمويل ماسوني ودورات في الخيانة من الحكومة الصربية وأن أعضائها يمتلكون أسلحة أوتوماتيكية بالإضافة لأسلحتهم اليدوية التي يستخدمونها في شقة الدقي، وكذلك أصبحت كل منظمات المجتمع المدني عميلة، وصار علاء عبد الفتاح ملحدا زنديقا ومجاهرا بالإفطار في رمضان، وتضخمت ثروة أسماء محفوظ حتى أنها ستشتري جائزة نوبل بأموالها.
لقد أنفقت مئات الساعات في مناقشة كارهي الثورة، ولم أفلح أبدا في تغيير وجهة دماغ شخص واحد منهم (أحيانا يهزون رؤوسهم كمن تعرض لصدمة ثم يعود لمربع "الثورة وقفت حالنا")، كما أنفق هؤلاء آلاف الساعات في مناقشتي ولم تتغير وجهة نظري في أننا متجهين للأفضل، والحائرون حائرون، تأخذهم كلمة من هنا ومن هناك، لكن أي من أعضاء المعسكرين لم يغير مكانه.. لقد خلقنا الله ثوارا ومواطنين شرفاء، هذه هي المعادلة البسيطة التي يجب أن نتعامل معها، فالناس يتناولون نفس المعلومات بالطريقة التي تخدم قناعاتهم الأصلية (مثال: عندما سمعت بتهمة علاء ضحكت ساخرا من أعماق قلبي لكن آخرون يرونها تهمة مناسبة لزنديق مثله).
يبدو هذا للوهلة الأولى تعاليا وتكبرا، وهنا سأعود لمنطقي الأول، فلا ترهقني المسميات لأن كل شخص في النهاية سيصدق الأمر على طريقته، ثم يمكنهم معاقبتنا عبر صندوق الانتخابات إذا أرادوا، وهو ترف كثير لا نستحقه، لأن الحياة ليست ديموقراطية يا غبي.

Thursday, August 11, 2011

النهاية

كل الحكايات الراقية تنتهي بالموت، وحتى النهايات السعيدة تصل لهذا ضمنيا. المهم أن يصل الجميع للنهاية.

رجع كريم والحواش للحارة، ولأول مرة يجدان الأحجار والأبواب والكلاب أقل حجما، والحارة نفسها صارت أضيق، وستزداد ضيقا في الأيام المقبلة حتى تصبح مثل نفق ضيق يؤدي إلى باطن كهف مظلم وقديم، ويبدو أن الطبيعة قررت دعم هذه الفكرة، فتوقفت الشمس عن سكب أشعتها داخل أخدود الحارة، وتحولت أرضيتها إلى وحل رطب وبقع ماء متبقي عن الغسيل والاستحمام، ولعل أحد من سكانها لم يلاحظ هذا التغير البيئي الآخير مع انشغالهم في تعلية البيوت وتقفيل الشرفات.

التغير يبدو أكثر سرعة على الكائنات البشرية، لقد استمرت مفاصل تاريخ الحارة في الاعتماد على الجنازات، تدعمها الفضائح وليس السيرة الطيبة للأموات، ولهذا لم يتوقف التاريخ طويلا عند موت الجدة الهادئ، ولا اختفاء خالة خضرة، وربما لم يعلم أحد أن خضرة تزوجت للمرة الأخيرة وتركت شابا أرملا بكاها بحرقة ولم يكن هذا بسبب أنها تركت له مبلغا محترما جمعته من بيع الشبت والبقدونس. لكن الكل يتذكر ميتة أم مصطفى حواش.

ككل بواجير الجاز، كان لا بد له من يوم ينفجر فيه بغرفتها الضيقة، أو أن الباجور سقط من على الطبلية وانسكب منه الجاز ثم جاءت النار. المهم أنها عجزت عن الهرب فحاولت أن تختبئ تحت الكنبة الوحيدة في غرفتها بعد أن أغرقتها ببعض الماء الذي يبدو أنه لم يكن كافيا لمواجهة الحريق، فماتت اختناقا ولم تمسسها نار، لكن ما جعلها ميتة لا تُنسى هو جوال السكر الذي كانت تخزنه في سحارة الكنبة من أجل بدء مشروعها الطموح لصناعة الهريسة والبسبوسة، وأذابت الحرارة 18 كيلوجراما فقط من السكر لأن موظف الجمعية التعاونية خدعها وهو يمرر لها سكر التموين المدعوم، وتحول السكر المنصهر إلى عسل سال على الجثة المختبئة، ويحلف من استخرجوا الجثة أنها كانت تمثالا مرمريا لطفلة نائمة في وضع جنيني. آه، استراحت أخيرا.. هكذا قالوا.

كالعادة، لم يشهد الحواش الأب هذه الأحداث، لكنه ظهر بعد أيام من الجنازة، وجلس صامتا يدخن على ذلك الحجر المريح الذي اعتادت خضرة أن تجلس عليه، ولعله شعر بعدم جدوى الطريق الذي حاول سلوكه وانسد بموت الزوجة، فألقى لولده بمفاتيح الدكان وكل ما كان في جيبه من مال، وذهب بلا رجعة.

ترك مصطفى المدرسة بطبيعة الحال، وانتقل بسلاسة إلى دكان العجلاتي كما عبر فجأة إلى عالم الرجال، وتزوج وظل في الحارة، ولم يعد هناك ما يمكن حكيه عنه.

عاش كريم ثلاثين عاما بعدها، وفي هذا قسوة كافية مع مرضه المزمن. وبدأت نهايته بأن استردته أمه نهائيا، ولم يعد إلى الحارة إلا في زيارات متباعدة للجد الذي امتد عمره للمائة وشهد أبناء أحفاده وهم في سن الشباب، وكاد يرى أحفاد أحفاده لولا قضاء الله الذي نفذ بهدوء وروية لم يقطعهما إلا جنازته التي أغلقت الحي ساعة كاملة بعد صلاة العصر، ودُفن في مقبرة الجمعية الخيرية التي أنفق ثلثي عمره عليها.

في الأعوام الأخيرة، تقابل كريم والحواش كثيرا في الحارة وأمام محطة القطار، وتقابلا مرتين أمام قسم الشرطة، بل أنهما تقابلا بالصدفة في أحد أزقة المدينة التي تقع في آخر العالم. في كل مرة كانا يهزان رأسيهما في احترام للأيام الماضية، والمجد الذي كان، ويستكمل أحدهما طريقه في ارتباك، بينما يتجمد الآخر للحظة في مكانه، ينظر للطريق الذي سلكه صاحبه، ثم ينحدر في طريقه الخاص.

Friday, July 1, 2011

الأونكل على دين السلطة

يتكرر الموقف بكل دقة كما لو أنه من المقصود به أن يتكرر.

كنت عائدا من الميدان، وعلى بعد أمتار من منزلي قابلت أونكل فلان، إنه واحد من أونكلات العائلة الذين اخترقوا الخمسينات من أعمارهم بكل همة، وبالإضافة لكونه أونكلا مخضرما، فإن ذكرى أنني كنت أنتظر العيدية منه في الأعياد البعيدة.. تحيطه بهالة واقية تحميه من انفعالي ضده. من حسن الحظ أن أونكل لن يقرأ هذه المدونة، أو هكذا أتمنى.

سألني الأونكل عن صحتي والحال والأولاد، ولاحظ التعب الذي يبدو عليّ فقال "شكلك راجع من الميدان" فأجبت أن نعم، فبادرني بالسؤال عن الأحداث الأخيرة، وقبل أن أجيب بادرني بسؤال آخر: "إيه اللي بيعملوه ولاد القحبة دول؟". كان هذا سؤال على المستوى الفني فقط، من حيث الصيغة وأدوات الاستفهام والعلامة في آخر الجملة، لكنه كما هو واضح يصيغ رأيا بغرض أن يتفق المستمع معه أو يرفضه، لكن المبادرة نفسها تؤكد أن الأونكل يسعى فقط لانتزاع اتفاق قهري من شخص يعرف جيدا عدم اتفاقه مع رأيه.

تعللت بأني متعب والموضوع طويل، لكن الحقيقة أنني قررت منذ زمن أنه لا فائدة من مناقشة الأونكلات. في اليوم الأول من فبراير، كنت عائدا من الميدان سيرا على الأقدام، وهي مسافة تزيد عن 15 كيلومتر، مررت خلالها بخمسين لجنة شعبية على الأقل، وقبل منزلي بخطوات، قابلت أونكل آخر سألني باستنكار عما أريده بعد أن تفضل الرئيس بتغيير 12 وزيرا مرة واحدة، كان موقفي مشوشا تجاه تنازلات مبارك وقتها، كما أني لم أعرف تفاصيل التغيير الوزاري، إضافة لمعرفتي بعدم جدوى مناقشة الأونكلات، وحاولت الانسحاب التكتيكي بالطريقة المعتادة، لكنه أصر على استفزاز الثائر العصبي الذي بداخلي، وكانت النتيجة أزمة عائلية تطلبت جهودا وتنازلات لترميم صدعها، وأزعم أنه لا يزال ممتدا في عمق النفوس.

أعرف 5 أونكلات على الأقل في عائلتي مستعدين لإبراز آرائهم الهدامة في كل منحنى تقابله الثورة، إذا اختل الأمن سبّوا أم ميدان التحرير على من فيه، إذا طال طابور الخبز لعنوا شهر يناير ومن ثاروا فيه، إذا اهتزت البورصة (وهم ليس لهم بها ناقة ولا سهم) ضحكوا بثقة وقالوا أننا خربنا البلد. عندما أراجع الماضي القريب قبل الثورة، أتذكر أن اثنان من هؤلاء الأونكلات كانا يدعمان بشدة تصدير الغاز لإسرائيل (حتى عندما حاولت اللعب على الوازع الديني لديهما)، واحد منهما غضب بشدة عندما عرف أنني لم أنتخب زكريا عزمي في الانتخابات الأخيرة، كلهم معترضين على الغلاء و4 منهم يشعرون أنهم يتعرضون لظلم بيّن في أعمالهم، لكنهم جميعا ضد أي تغيير يطول مواقعهم في العمل أو مواقع رؤسائهم، وجميعهم ليسوا أعضاء في الحزب الوطني أو غيره، وهم غير فاسدين لكنهم ضد كشف الفساد الذي زكم أنوفهم، يصلون ويحجون ويكرهون فلسطين (لأنهم باعوا بلدهم على حد قولهم) والأخوان المسلمين والمظاهرات والإضرابات.. ولقد زادت رواتبهم في الأيام الماضية نتيجة للثورة (كلهم عاملون بالحكومة والقطاع العام).

يتميز كل الأونكلات، سواء في عائلتي أو أي عائلة أخرى، بثقة لا متناهية في أنه لا شيء يتغير، وأنه لا داعي للتغيير، وأن ما يعرفونه أفضل مما لا نعرفه، وأنهم يعرفون كل عناصر المعرفة الرئيسية اللازمة لهذه الحياة.

لقد عاش معظم هؤلاء عمرهم في عهود حملت بقايا الرخاء، كما أنهم عاصروا موت طاغية، ونشوء طاغية آخر، لقد تمرغوا في خير القطاع العام، ثم تسلوا بالثرثرة عن الفساد الذي نخر أساسه حتى تخصخص وانهار أمامهم فكتموا ثرثرتهم خوفا وطمعا، لقد ذهبوا بالملايين (في حافلات حكومية) لانتخاب مبارك وأعوانه وزبانيته وكانوا مستعدين لتكررا هذا إلى نهاية التاريخ، رغم أنهم لم يتوقفوا للحظة عن النظر بحسد لرجال النظام.

منذ أسبوعين كتب صديق لي مدونة عن هؤلاء الذين ليسوا فلولا وليسوا ثوارا، ودعانا للتفكير في وسائل للتعامل مع هؤلاء، أتذكر أن أفضل اقتراح كان أنه لا توجد طريقة وحيدة للتعامل معهم جميعا، وهي مفارقة مضحكة أن نستخدم معايير فردية للتعامل مع ناس يرفضون أي تفكير فردي وينفرون من أي عمل جمعي.

الناس على دين حكامهم، بمعنى أن الحاكم ينشط في شعبه صفات معينة ويحبط أخرى، بغرض أن يكونوا أسلس في القيادة. في حالتنا هذه عمد مبارك ومن قبله على تنشيط صفات الجبن والاتكالية والغرور واستمراء الجهل واستسهال الحسد، وأحبط الشعور بالكرامة واحترام الذات وحب العلم والعمل الجماعي. اعتدت أن أنتظر خطبة عيد العمال في كل عام، وأعترف أنني كنت أفضل تلك اللحظات النادرة التي كان فيها مبارك يلقي بالأوراق المكتوبة جانبا ثم يرتجل بطريقته القروية ويكشف لنا كم صرف على الصرف الصحي ودعم الخبز، ثم يلطف حديثه بمزاح ثقيل عن عدم قدرتنا على تنظيم النسل. كان مبارك (بدون وعي غالبا) يذكرنا دائما بأننا كائنات لا تتوقف عن التهام الخبز والتكاثر وتتعمد إغراق نفسها بالنفايات. كان يبرز أسوأ ما فينا ويركز عليه حتى لا نعرف أنفسنا بدونه. في عهد مبارك ظهرت لأول مرة أفكار أننا شعب لا يصبح للديموقراطية أو حكم نفسه.. ولقد كان الأونكلات شركائه في هذا طوال الوقت.

ليست مشكلتي أنكم تركتموه يحولكم إلى كائنات تقضي حياتها في الاستهلاك وتأمين أي احتمالات للمستقبل، ليست مشكلتي أنه شوه آلية إحساسكم بالعدل والخير والجمال. أتساءل حول موقف أونكل الأخير، هل كان سيعتبر أن الموجودين في الميدان أولاد قحبة إذا كان قد فقد أحد أبنائه على يد الشرطة (سواء كان ثائرا أو مسجلا خطرا أو حتى تصادف مروره أمام أحد أقسام الشرطة)؟ هل كان سيظل متظاهرا بالتعقل إذا مرت 6 أشهر بدون إدانة أو تحقيق جدي مع قتلته؟ كيف كان سيتصرف عندما يذهب للمحاكمة فلا يجد فرصة لرؤية المتهمين في القفص ثم يغادر هؤلاء المحكمة بدون أن يرى في عيونهم نظرة ندم أو خوف من المصير؟ ماذا سيكون رد فعله عندما يتصل به أحدهم ليساومه على دم ولده أو يهدده؟ وفي النهاية.. كيف سيتصرف عندما يتهمه أحدهم بأنه زوّر شهادة ابنه ويصفه آخر الأمر بأنه ابن قحبة؟

الحقيقة أن الثورة قامت بدون طلب موافقة هؤلاء الأونكلات، وهم كانوا ضدها قبل قيامها بعشرات السنوات، ولم يهدأ توقهم للقديم إلا بانقلاب موازين القوى فهادنوا الثوار حينا حتى مرت العاصفة ليعودوا إلى سيرتهم الأصيلة (المدون الطبيب محمود عزت كشف كيف منع كبار التجار في بولاق مرور الدواء والغذاء عن الجرحى في التحرير، لكن يمكن الآن رؤية لافتات تأييد الثورة هناك)، لقد خوفونا بمقولة أن البلد تكاد تضيع حتى اضطررنا للهدوء في منتصف المشوار وتركنا المسيرة لوزراء ومجلس عسكري يرضون هم عنه مهما حدث، وسيظلوا هكذا حتى ينقطع الحبل السري الذي يربطهم بنظامهم الفاسد، ولن تُجدي محاولات استرضائهم أو تحليل ما يدور بعقولهم.

لكن هناك مشكلتان، الأولى أن هذا الكلام يبدو إقصائيا، وكأني عندما أكتبه أصبح في نفس درجة تصلبهم، ومع هذا لا أعتبر أن تجاهلهم هو إقصاء لهم، فليؤسسوا حزبا للأونكلات الرافضين لعيال الفيسبوك، أو يضعون كلمة ائتلاف على أي جملة غير مفيدة تخفي تذمرهم ثم يتكالبون على السياسة. أنا لن أزوّر إرادتهم ولن أسجن وأرشوا قادتهم كما كان يفعل نظامهم الحبيب. كل ما أريدهم هو إبراز تناقضاتهم للحد الأقصى، لعلهم يعقلون ويعدلون.

المشكلة الثانية أنهم طائفة مؤثرة في أي تصويت مقبل. تماما مثلما حدث في استفتاء الدستور الأخير، لقد قيل أن الشعب صوّت على الأمان والاستقرار، وها نحن نرفل فيهما كما ترون (مثال: أحداث إمبابة، وانتخابات الرئاسة في نهاية 2012، هذا إذا تمت)، فلماذا لم يغير الشعب رأيه؟ الحقيقة أن هذا لم يكن الشعب، 14 مليون فقط وافقوا على التعديلات (أعرف أننا كنا أقل من هذا في الثورة، استمر معي قليلا)، والحقيقة الثانية أن التآلف غير المعلن بين الأونكلات (في الأحزاب والجماعات والمصالح الحكومية ومترو الأنفاق) صوّت ضد الثورة ولصالح السلطة الآنية كما اعتادوا أن يفعلوا طوال عمرهم (علما بأن الأونكلات ليسوا 14 مليونا لأن هناك من صوّت بلا للخلاص من العسكر). لا يوجد قانون إنساني يمنعك من أن تفعل هذا، لكني أردت أن نكون واضحين، هؤلاء الأونكلات لا يوجد لديهم أحب من مبارك إلا الاستيلاء على ثروته توزيعها على أنفسهم، علاقتهم بالسلطة هي متوالية مريضة للخوف والكراهية والحسد.

هناك وسائل عديدة لردع (اللفظ متعمد) ائتلاف الأونكلات في أي تصويت قادم، هل تعرف مثلا أن الكتلة التصويتية الأكبر تقع بين 19 و34 سنة؟ هذه الشريحة وحدها تعادل تأثير المجموعة الموجودة بين 35 و89 سنة، علما بأن الأونكلات ليسوا أغلبية هذه المجموعة، هل تعلم أن النساء (أيا كان عمرهن) أكثر تقبلا للتغيير عن الرجال وهن أقل تعرضا لمفاسد النظام السابق؟ هل تعلم أنه في كل عام يكسب الشباب مليوني صوت في الكتلة الانتخابية؟ وهل تعلم أن الصعيد حتى الآن يشاهد ما يحدث بحيادية؟ بالإمكان العمل على معرفة مطالب كل هذه الكتل الأخرى والتوافق عليها، وفي النهاية سمعة الأونكلات سيئة جدا عندما يتعلق الأمر بحقوق الفقراء ومصالح الفلاحين والطوائف المختلفة عنهم لأنهم كانوا دائما يدافعون فقط عن استقرار رواتبهم وليذهب الآخرون للجحيم، ورغم أنك ستجد الأونكلات داخل طوائف مثل الأقباط ونقابات العمال مثلا، لكن لهجتهم المزعجة ستنقلب عندما تخاطبهم كجماعات وليس كأفراد، فهم لم يعتادوا العمل الجمعي.

في النهاية، لا أحب أن أواري موقفي الحقيقي وراء ما يبدو كتحليل محكم. لقد كانت هذه ثورة شباب (حتى لو خجلنا من هذا وحتى لو شارك بها بعض العقلاء الكبار)، ضد مجموعة من العجائز المتهالكين الذين دفعوا البلد إلى حافة الهاوية من أجل استمرار مزاياهم، وهي حرب، فعلا، لا يجب التهاون فيها، فالفاسد مكانه السجن، والمتواطئ مكانه البيت، ومن بينهما، فليقل خيرا، أو ليصمت. المستقبل تقع علينا مسؤوليته، نحن من سنجني ثماره أو نعاني من كوارثه، وأثبتت الأحداث أننا الأجدر بهذه المسؤولية، وكفاهم ما فعلوه بأيامهم الماضية.