Pages

دليفري للبهوات

Sunday, November 13, 2011

مذبحة ماسبيرو بالألوان

كان المشهد واضحا: المدرعة تندفع وأمامها 3 أو 4 متظاهرين يحاولون الهرب فلا يسعفهم فارق السرعة ويعرقلهم الاصطدام بمزيد من المتظاهرين، ثم تنقطع اللقطة. كان المشهد واضحا "بالنسبة لي فقط" (حتى أنه لم يدفعني للتعليق)، عرفت هذا عندما سمعته يقول: بص بص واقفين قصاد المدرعة إزاي؟
كنت مستعدا لمناقشته في خطايا المجلس العسكري، عن الاقتصاد وتجويع الشعب، عن الهوية الوهمية التي يتصارع الليبراليون والإسلاميون عليها.. بل كنت مستعدا لمناقشة فشل المتظاهرين في منع المندسين الذين يلازمون كل تجمع. مالم أكن أظنه يقبل المناقشة هو منظر 20 طنا من الفولاذ المجنون تطارد مجموعة من مندوبي المبيعات ومحصلي الكهرباء ومدرسي الفيزياء، ثم وهم يسقطون تحت الآلة المجنونة (أو المصابة بحالة نفسية)، والجنون يعبر فوقهم كمطبات بشرية هينة.. تماما مثل التي المطبات التي نصنعها أمام المدرسة لكي نجبر السيارات على مراعاة حماقة الأطفال.
قضيت الليلة وأنا أفكر أن الأمر كما لو أننا اختلفنا في رؤيتنا للون شيء ما، مثلا هو يرى أن السقف لونه أبيض بينما أنا أراه أزرق (نعم، أعرف أن السقف لا يمكن أن يكون أزرق لكني أجادل)، في هذه الحالة لن يكون لدى أي أحد منا وسيلة لإقناع الآخر. عندما يكون الاختلاف في أوجه الإدراك الأساسية فلا مجال للتفاهم.
ربما يمكننا البدء بنقاط الاتفاق، مثلا أننا نتكلم عن سقف الغرفة (وفي حالتنا الأصلية سنتفق أن أحداث ما حدثت عند ماسبيرو)، لكن بعد ذلك سنتوقف عند حافة إدراكنا المتنافر.
كنت قبلها أفسر الأمر بطريقتنا في التعامل مع الإعلام، فالناس يعطون آذانهم وعيونهم لوسيلة الإعلام التي توافقهم في الرأي، وإذا لم يجدوا واحدة توافقهم فإنهم يذهبون لأي مصدر معلومات لكنهم ينتقون فقط تلك التي تؤيد معتقداتهم. لكني كنت أراهن على أنه لا أحد يقدر على مشاهدة المذبحة ثم يبررها لنفسه بهذه السهولة. في تردي الجثة البشرية صدمة وعقاب ومشاركة لا يمكن لأحدنا الفكاك منه.
لكن يبدو أن شلبوكة وشوبير قاما بعملهما جيدا، ومن قبلهما نظام جعل الكوارث تحدث كلها للآخرين، ومن فوقه دولة تحتقر عقل الفرد وتنتهك جسده. هنيئا لهؤلاء (ولا ننسى أفضال مشايخنا الذين جعلوا جسد المسيحي أقل حرمة من المسلم) فقد تفوقوا على غريزة أساسية تجعل الفئران (على وضاعتها) تشعر بالرهبة لجثث رفاقها.
الآن يمكننا فهم كيف كان أهالي عابدين وبولاق يفكرون وهم يمنعون الغذاء والدواء عن المعتصمين، وكيف كانت عفاف شعيب تضع الكوارع في مرتبة أسمى من أبناء وطنها، وكيف يصر سابيدر على أن كل هذا مؤامرة صهيونية ماسونية.. كل شيء واضح.
إنه مجرد اختلاف في الألوان.

Thursday, November 10, 2011

الحياة ليست ديموقراطية يا غبي

كان صاحبي عبقريا عندما قال إن أسهل طريقة لتفريغ أي شيء من معناه، هو أن تطلق عليه اسما ما، ثم تسهب في استخدام الاسم حتى يضل المعنى طريقه لأصله الأول. كنت أرى أن أول ضربة تلقتها الثورة المصرية عندما حصلت على لقب "ثورة"، الضربة الثانية كانت باستثمار المصدر اللغوي لاختلاق لفظ "ثورجي"، وكأن الثورة مهنة ذات دوام من التاسعة إلى الخامسة.
تذكرت هذا عندما رأيت لفظ "ثورجية" في تعليق لصديق كاتب صحفي يرى أننا انشغلنا بقتال المجلس العسكري وتركنا الشارع للأخوان، بينما قال لي نجم صحفي لامع إننا لم نترك بديلا للناس عندما هاجمنا العسكر على صفحات المدونات الإلكترونية (يا للهول).
الحقيقة أنني لست ثورجيا (وإن كان مظهري يوحي بهذا لأني لا أستمتع بحلاقة شعري ولحيتي)، أعمل في وظيفتين وأحيانا ثلاثة، زوج وأب لطفلين أحدهما كان يعتلي كتفي منذ لحظات، والمفاجأة أنني لا أعرف واحدا من الثورجية المشاهير، وكل من تخطوا الثلاثين في عائلتي كانوا ضد "الثورة" من قبل حتى أن يصبح اسمها كذلك، ويوم موقعة الجمل كنت مرعوبا في منزلي وأفكر أنه لو انتصرت قوات المماليك فمن الأفضل أن أهاجر بأسرتي وأتبول على جواز السفر المصري.
في يوم 28 يناير لم يبدو أحدنا ثورجيا، خرجت في ذلك الصباح مع مدير بشركة أدوية كبيرة، واثنين من زملاء الدراسة لا أتذكر عنهما إلا مطاردة البنات وكسر قلوبهن. في العباسية تظاهر شقيقي الذي فكر منذ سنتين في الانضمام للحزب الوطني لأنه لم يكن هناك شيء آخر يمكن فعله، وفي مدينة نصر خرج 3 من أصدقائي رغم عجزي عن إقناعهم في الليلة السابقة، اثنان منهما كذبا على والدتهما في هذا اليوم.
أتذكر أنني فوجئت عندما قال لي الكاتب الصحفي "أنتم"، حاولت في البداية شرح أنني مثل الجنود المرتزقة (لا تأخذها لفظيا، أنا أكره كنتاكي من قبل الثورة وأرى أنه من الفظاظة أن آكل الدجاج المقلي خارج البيت)، بمعنى أنني أحدد الجهة التي أنحاز لها بناء على معطيات الموقف ذاته، لست سياسيا ولا أتناول الآيديولوجيا في الصباح، ولا أتحكم إلا بجثتي وحدها، فقط أقوم بواجبي ولا أتحدث باسم أحد، وإن كان لا يضايقني أحيانا أن يتحدث البعض باسمي عند إثارة الحس الجمعي.
ضايقتني "أنتم" لأنها ستضعني ضمن فئة محددة، حيث سأكون باغيا لو نصرت فئتي على الدوام، ثم أصبح خائنا لو خالفتها يوما. لكني لم أتضايق كثيرا لأن أحدهم أنعم عليّ بصفة الثورة وضمني لنجومها، ففي الحقيقة أنا معجب بهؤلاء الذين ثبت إيمانهم بأنفسهم وبرفاقهم يوم اجتاحات الخيول الميدان وانهال عليهم الرصاص.
الحقيقة أيضا أنني لست منزعجا من فكرة عزل الثوار عن الشعب "الثائر"، لقد "كنا" هكذا دائما طوال الوقت. أتذكر قريبي الذي قال منذ سنوات إن الناشطات ذهبن إلى سلم نقابة لأنهن يستمتعن بالتحرش الجنسي، وأتذكر أن أعضاء حركة كفاية قضوا سنوات عديدة على كل أنواع السلالم ولم يدفع هذا المواطنين الشرفاء للانضمام لهم (الحق يٌقال: أحيانا كانوا ينظرون باستغراب ثم يسألون عن الساعة وينصرفون)، وفي جمعة الغضب كنا نشير لسكان الشرفات "يا أهالينا انضموا لينا" فأشار أحدهم إلى ابنته الصغيرة بمعنى أنه لن ينزل خوفا على مستقبلها (على أساس أن ابني هو ذكر أميبا وحيد الخلية بلا مستقبل)، لقد نزل منهم عشرات الآلاف يومها (بفضل السياسة الاقتصادية الحكيمة للنظام)، ثم اشترك ملايين آخرين عندما دقت ساعة العمل (والبعض شارك قبل ساعة انتهاء العمل بدقائق). لكن الحقيقة المجردة أن 3 أمثال تلك الملايين كانوا متفرجين أو كارهين لنا.. أو بكل بساطة داعمين للنظام الذي ندعو لإسقاطه لكنهم لم يكونوا محبين له جدا لدرجة قتلنا.
ليس الهدف من هذا أن أذكركم بأن معظم الشعب ابتلع الثورة على مضض عندما بان لهم عناد الثوار وأصبح انتصارهم وشيكا (ها أنا أستخدم الكلمة التي عارضتها في البداية وهذه هي ضريبة الكلام)، بل أذكركم بأننا نزلنا يومها ونحن لا نتمتع بأي فكرة عن العودة سالمين أو ناجحين، ولحسن الحظ لم يطالبنا أحد بأن نلتزم برأي أغلبية الشعب الذي انتخب نوابه قبلها بثلاثة شهور فقط (حتى الآن لم يحاول أحد أن يُبرز دليل تزوير وفساد الانتخابات ربما للمداراة على فساد آخر).. أو ربما كنا أقمنا استفتائا برعاية الحزب الوطني: هل توافق على القيام بثورة؟ نعم/ لا.
والآن يستمتع البعض بتذكيرنا بأننا فقدنا دعم الشارع وأن المظاهرات أصبحت مزعجة للمواطنين الشرفاء. الحقيقة أنني لم أشعر أبدا بدعم هذا الشارع، لم يستغرق الأمر إلا جهد يسير لإقناع الشارع بأن حركة "6 أبريل" تتلقى تمويل ماسوني ودورات في الخيانة من الحكومة الصربية وأن أعضائها يمتلكون أسلحة أوتوماتيكية بالإضافة لأسلحتهم اليدوية التي يستخدمونها في شقة الدقي، وكذلك أصبحت كل منظمات المجتمع المدني عميلة، وصار علاء عبد الفتاح ملحدا زنديقا ومجاهرا بالإفطار في رمضان، وتضخمت ثروة أسماء محفوظ حتى أنها ستشتري جائزة نوبل بأموالها.
لقد أنفقت مئات الساعات في مناقشة كارهي الثورة، ولم أفلح أبدا في تغيير وجهة دماغ شخص واحد منهم (أحيانا يهزون رؤوسهم كمن تعرض لصدمة ثم يعود لمربع "الثورة وقفت حالنا")، كما أنفق هؤلاء آلاف الساعات في مناقشتي ولم تتغير وجهة نظري في أننا متجهين للأفضل، والحائرون حائرون، تأخذهم كلمة من هنا ومن هناك، لكن أي من أعضاء المعسكرين لم يغير مكانه.. لقد خلقنا الله ثوارا ومواطنين شرفاء، هذه هي المعادلة البسيطة التي يجب أن نتعامل معها، فالناس يتناولون نفس المعلومات بالطريقة التي تخدم قناعاتهم الأصلية (مثال: عندما سمعت بتهمة علاء ضحكت ساخرا من أعماق قلبي لكن آخرون يرونها تهمة مناسبة لزنديق مثله).
يبدو هذا للوهلة الأولى تعاليا وتكبرا، وهنا سأعود لمنطقي الأول، فلا ترهقني المسميات لأن كل شخص في النهاية سيصدق الأمر على طريقته، ثم يمكنهم معاقبتنا عبر صندوق الانتخابات إذا أرادوا، وهو ترف كثير لا نستحقه، لأن الحياة ليست ديموقراطية يا غبي.