Pages

دليفري للبهوات

Monday, July 20, 2015

محاولات لستر سندريلا.. بكل رقة!!



لم تنجح أبدا الآنسة سندريلا في جذب تعاطفي لقضيتها (هي سيدة حالياً باعتبار أن الأمير الوسيم أبر بوعده وتزوجها). الناس يتعاطفون مع سندريلا لأنها بنت أصول، طحنها القدر بموت والدها الذي يبدو أنه كان إقطاعيا مستريحا بمقاييس أوروبا العصور الوسطى، ثم وقوعها تحت سيطرة زوجة الأب الشريرة التي تسعى إلى ستر بنتيها بالزواج من الأمير. الأمير نفسه يستحق أن تتولى أمره إحدى النسويات، برغبته في رص كل فتيات المملكة أمامه لاختيار واحدة فقط كزوجة.
اعذروني، لا أرى أنه عليّ التعاطف مع ابنة إقطاعي، كما أن زوجة الأب هي الأخرى ضحية مثقلة ببلوتين شابتين (المرأة في تلك الفترة لم تكن لها ذمة مالية من الأصل وفي الغالب كانت الأرملة تكافح لضمان عدم تشردها في الشوارع). الحقيقة أن سندريلا والبنتين هن فتيات وصوليات في النهاية لأن عالمهن يتمحور حول اصطياد الأمير.
المسألة ليست شخصية تجاه سندريلا نفسها، حيث أني أجد نفسي متعاطفا مع المعالجات الجديدة للحكاية، مثل فيلم Maid in Manhattan، وفيه "جينفر لوبيز" بدور عاملة لاتينية في أحد أفخر فنادق نيويورك، وتضعها مجموعة مصادفات معقدة في قصة حب مع الفتى الذهبي الذي تحاصره مخططات الزواج من نخبة فتيات تفاحة العالم (يقوم بدوره رالف فاينس)، ويقدم الفيلم نقدا اجتماعيا خفيفا للطبقة البتي تصنع السياسة والإعلام في المدينة.
من المغري أن أتخيل نفس القصة عندنا، لكن الخيال هنا له حد قاسي، لأن مهنة خادمة الفندق (روم سرفيس يعني) هي أمل لفتيات كثيرات يعملن 12 ساعة يوميا في محال الملابس (حيث عليهن تبادل الرزالة مع الزبون المصري التقليدي)، إضافة لملايين الفتيات اللاتي يعملن في الزراعة واكتسبن خشونة لن تناسب الأمير الرقيق، وكذلك الفتاة التي تجمع القمامة من شارعنا لأن الأمير سيحتاج إلى مجهود كي يكتشف أصلا أنها فتاة.
هذه أشياء لا توقف تحقق قدر السندريلا، بل إنها تثير حماس الكتاب عندنا الذين يتخيلون مصر دائما على إنها فتاة (هذه عنصرية والله): مصر تسقط في الطين وينقذها الجندي المنتصر (الرصاصة لا تزال في جيبي)، تصدمها سيارة السكارى (ثرثرة فوق النيل)، يغتصبها عمها فتلقي نفسها في أحضان مغامر بريطاني (يوم غائم في البر الغربي).. وهكذا.
والآن تتسابق أمامي الصور والعبارات التي يتحمس لها كتاب السيناريو المبتدئين، تبدأ قصة سندريلا المصرية دائما بفتاة تفقد والدها:
فاطمة. فتاة جميلة تذهب للعمل في فندق شهير، حيث يراها سليم، ابن رجل أعمال كبير، فيقدم لها عرضاً لا يمكن رفضه، ولأنه لا يمتلك الكثير من الوقت فإنه يُفعّل عرضه باغتصابها. ولا تجد فاطمة حيلة ولا خط رجعة، فتصبح خليلته، لكنها تفتقد الكرامة، والحب، وينتهي الفيلم بتخلي سليم عنها بعدما مل منها، فتنتحر. (#قصة قصيرة حزينة).
فلنبدأ من جديد؛ رشا تجد أخيرا وظيفة في شركة كبرى، حيث تدخل في قصة حب مع هاني، زميلها الطموح، ثم يراها رياض بك رئيس مجلس الإدارة (كل الأوغاد اسمهم رياض)، فيتقرب منها، وهو ما يُسعد هاني الذي يسعى إلى ترقية. يحصل هاني على الترقية، ويحصل رياض على الفتاة، ثم تتكرر بها القصة في مستويات أعلى، لتنتقل من رياض إلى آخر، حتى تُصاب بالجنون.
هي إذن ليلى الجميلة التي تلتقي بضابط الشرطة كمال في عرس صديقة لها، ويتزوجها بسرعة لتكتشف أنها تحتاج إلى الكثير جدا من العشرة لكي تحبه وتتغلب على خشونته، ثم تبدأ مرحلة العنف، ثم الطلاق، ثم اضطرارها للعودة إليه لأنها يجب أن تكون واقعية.. وهكذا حتى ينتهي الفيلم بإدمانها للمخدرات، مشهد النهاية وهي تشكو لمحامي نذل في أروقة إحدى المحاكم ("أريد حلا" ستايل).
نادية تظن إن إنقاذها سيكون على يد مناضل سياسي شهير يكبرها كثيرا في السن ثم تكتشف أنها يخونها مع نصف صديقاتها (ومع الخادمة أيضا لحبك الأمور)، ومنى تنتظر حبيبها الفنان الذي سافر وطال غيابه ثم يعود وفي يده فتاة إيطالية رشيقة (لأنه هكذا يجب أن تسير الأمور دائما)، أما مروة فقد صارت رابعة زوجات أحد الدعاة (كليشيه مضمون.. تصفيق حاد).
حسنا، لقد استهلكنا معظم كليشيهات السينما المصرية، لكن يتبقى سيناريو واحد، محاولة واحدة أخيرة: اسمها بسمة، وسنجعلها تحمل كل خبرات تلك الفتيات البائسات (كأن تكون صديقة لهن جميعا)، بحيث يمكنها تفادي كل هذه النهايات الحزينة.
والآن أطالبكم بتخفيف الإضاءة، والقراءة بإيقاع درامي يحتاجه السيناريو الأكثر إثارة: بسمة تتزوج الكولونيل.

الكولونيل وسيم وقوي ومركزه ممتاز
غامض، وبسمة تعتقد أنه جيد في الأمور إياها
كان حفل الزفاف جيدا
لكنه ليس أسطوريا
كانت هناك كل الفتيات
فاطمة ورشا وليلى ونادية ومنى ومروة.. ورجالهن الأنذال
كلهم سعداء.. يشجعونها ويدفعونها
لكن شيء ما خطأ
لا نعرفه
كما أننا لن نعرف ما حدث بعدها
لأنه لا أحد يمكنه الحديث عن حياة الكولونيل

تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق بتاريخ 26 ديسمبر 2013.. قبل 6 أشهر من حفل الزفاف

Monday, April 6, 2015

9 أسباب لكي اترك حمامات القبة وانتقل للسكن في العاصمة الجديدة



أعيش في حمامات القبة.. عائلتي تسكن بهذا الحي منذ 80 عام أو أكثر.. انتمي إلى الجيل الثالث بهذه العائلة، وربما يكون أولادي هم الجيل الرابع الذي يستمر موجودا هنا.. لا توجد مبررات واضحة لاستمرارنا هكذا، فهو حي نصف هادئ، نصف شعبي، نصف عريق.. إنه حتى نصف عسكري.
مثل أجدادي، تعمدت تفويت فرص كثيرة للخروج منه أو السكن في منتجعات الصحراء، لكني الآن سأعيد حساباتي، لأن إغراء العاصمة الجديدة لا يمكن مقاومته.
1- لأنها بدون ميادين للقتل
يشير صديقي إلى ميدان طلعت حرب ويقول إن القاهرة الخديوية صممها فرنسيون أثرّت فيهم الثورة الفرنسية بشكل عكسي، فكرتهم عن الميادين المركزية أنها مكان يمكن من خلاله السيطرة على عدة شوارع بمدفع واحد.. هذا من وجهة نظر أصحاب المدفع، لكن سكان المدن يحبون الميادين لأنها مكان للتجمع والالتقاء، حيث إن المدافع لم تعد سلاحا فعالا.. أصبحت السلطة تكره كل الميادين.
حسنا؛ سنغلق محطة المترو.. سننشئ مدينة جديدة بلا ميادين، سنجعلهم يسيرون لكيلومترات طويلة محاصرين بشواهد إسمنتية عملاقة مغطاة بالزجاج الداكن، يسيرون ويسيرون بدون ميادين يلتقون بها حتى تلحس الشمس عقولهم.. هكذا يتحدث ماكيت المدينة.
2- لأنها بعيدة بعيدة
ما الذي حدث عندما فكر الثوار في الزحف إلى شرم الشيخ؟ وماذا حدث لقوافل التضامن مع غزة؟
سنمنع عنهم وسائل النقل، سنمنعهم من مغادرة المدن، نوقفهم في الكمائن الصحراوية، نقطع الطرق تماما إذا استدعى الأمر.. في الفراغ خارج المدن، الدولة الرخوة يمكنها ممارسة القوة لآخر مدى، الجماهير المرعبة تصبح مثل حفنة رمال يتم نثرها في الصحراء.
فلنجعل مدينتنا وسط الصحراء، لا تبعد كثيرا عن أملاكنا، قريبة من المنتجعات البحرية، وتتمتع بحماية السلاح.
3- لأنها مدينة التنوير
لم يكتمل الأسبوع، ثم بدأت المطالبة بأن تكون المدينة للمتعلمين فقط.. هؤلاء الذين يتمتعون بالسلوك الحضاري الذي يجعلهم يكتفون بإنجاب طفلين اثنين لا أكثر، ويعملون في وظائف لامعة تحمل مسميات غامضة وطويلة.. المهم أنها ستكون مدينة محرمة على الواغش الذين لا يتمكنون من استكمال تعليم لن يؤهلهم لأي شيء، وينجبون خمسة وستة وسبعة عيال، هؤلاء الذين تمنعهم أصولهم الضعيفة (قطعيا) من العمل في القضاء والخارجية.
إنها "يوتوبيا" كما وصفها "أحمد خالد توفيق"، لكن لا أحد تخيل أن هناك من سينقلها للواقع.
4- لأن مدام عفاف في الدور فوق الأرضي
كما يقول أحد الساخرين: ستذهب إلى العاصمة الجديدة لاستخراج ورقة من أحد الأبراج الحكومية الشاهقة.. سيراجع الأستاذ بدوي أوراقك في الدور الـ 57، ثم ستنزل للدور الـ 29 لكي تدفع الرسوم في الخزينة، وتصعد عدة أدوار لكي تشتري ورقة دمغة وتنسخ طلبك وتشتري ملف تضع فيه أوراقك. ثم ستذهب إلى مدام عفاف” لكي تحصل على الختم، في الدور فوق الأرضي.. بالعاصمة القديمة.
5- لأن الكهرباء لا تنقطع في العاصمة
خلال المؤتمر الاقتصادي، تألقت مدينة شرم الشيخ، تمت تغطيتها بشبكة واي فاي بالكامل. في نفس الوقت، مدينة الشيخ زويد، وهي في سيناء أيضا، انقطعت عنها الكهرباء والاتصالات تماما.
إنه قدر المدن العظيمة، تنقطع الكهرباء في الدلتا بالساعات، وفي الصعيد بالأيام، لكن انقطاعها في حي الزمالك هو حدث خطير يستحق تذمر السكان واهتمام الإعلام، بينما في أحد أبراج العاصمة الجديدة، سيشعر أحد السكان برعشة برد، ويفكر أنه ربما يجب تخفيض درجة حرارة المكيف.
6- لأنها غالية وستدفع كل شيء للغلاء
إنها الشركات التي تخصصت في المشروعات الفاخرة.. الشركات التي حصلت على مساحات شاسعة بأقل الأسعار.. الشركات التي أشعلت الأسعار ولم تهتم بتباطؤ البيع أو حتى إنهاء مشاريعها.. الحمد لله لأن الشركة التي ستبني العاصمة ليست منهم.
لا يهم إذا كانت الشركة حديثة.. لا يهم إذا كان موقعها الإلكتروني تم إطلاقه قبل المؤتمر بأيام.. لا يهم أن يكون لها مقر أو مشاريع سابقة، ولا يهم أن تكون لها علاقات بمن ينفون علاقتهم بالمشروع.. لن أهتم بكل هذه الهواجس، سأسارع بالشراء، لأن كل حفنة رمال على بعد 50 كيلومتر من العاصمة الجديدة سيصبح لها سعر، ساشتري ولا أعرف ما الذي سأشتريه.
7- لأنها قريبة من ولاد العم
في نهاية حرب أكتوبر 1973، وبعد أحداث ثغرة الدفرسوار، وصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس-القاهرة، لم يكن الطريق مفتوحا للعاصمة في الحقيقة، لكن المسافة إلى عاصمتنا كانت أقل من 100 كيلومتر.. أقل من طريق عودتهم لوطنهم.. حسنا، سنقلل المسافة لهم، ربما لم يعودوا أعداءا مثل الماضي، فلنأمل هذا، أو لنعمل على أن يكون الوضع هكذا.
8- لأنك لا شيء فيها
كنا نجلس على مقهى رخيص جدا، وضع صاحبي الجريدة أمامي، وأشار إلى إعلان لإحدى المدن الجديدة؛ رسم تخيلي للمدينة حيث ترتفع ناطحات السحاب بمركزها وتنتشر المساحات الخضراء على أطرافها.. كانت أزمة صاحبي أنه تخيل نفسه ينزل من الدور الثمانين 5 مرات يوميا، مرتديا الشبشب كعادته، لكي يذهب إلى مسجد صغير وبعيد في زاوية الصورة.. مشكلتي أنني حاولت تخيله هو شخصيا في الشارع، نقطة صغيرة غير ملحوظة وسط عظمة المشهد المهيب، أو الأفضل ألا تكون هذه النقطة موجودة من الأساس.
في أسبوعي الأول بدبي، كرهت تلك المدينة اللامعة، كانت أسبابي بسيطة، أن شوارعها لا تعترف بالمشاة.
9- لأن المطار تحت البيت
ستكون العاصمة الجديدة ثورية في تصميمها الحضاري، لدرجة أن الماكيت الترويجي، يضع المطار والاستاد وسط المساكن.. إنها مزايا رائعة لمن يحبون السفر السريع ومباريات الكرة، لكني جربت العمل في أحد المطارات لفترة.. أعرف ما هو صوت الطائرات، وأعرف أن التلوث أصابني بحساسية تنفسية استمرت معي حتى الآن.

ما الذي نسخر منه هنا؟!
تصميم الماكيت الذي يتجاهل أدنى قواعد الهندسة الحضارية والمعمارية؟ أم نسخر من الاستعجال الذي دفعهم لهذا الخطأ؟ أم نسخر من استهانتهم بنا لدرجة أن أي مصمم أزياء بريطاني في دبي، أصبح بإمكانه وضع تصورات لمدننا بكل هذا الجهل والغرور؟ أم نسخر من أن لا شيء في هذا حقيقي وأنه ليس أكثر من ماكيت؟ !

تم نشر هذا المقال في موقع زائد 18 بتاريخ 19 مارس 2015

Saturday, March 28, 2015

كيف تصنع عاصمة جديدة في ألف سنة؟


تبدو مدينة السادات التي تبعد عن القاهرة مسافة 92 كيلومترا وكأنها نموذج ساخر للعاصمة، فالمدينة أسسها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات عام 1979 لكي تكون عاصمة مستقبلية تحمل اسمه، وبحيث تكون نواتها هي مقرات حديثة للوزارات الحكومية، وحتى اغتياله كان المشروع يسير بشكل جيد، ومعالم المدينة تتضح وكأنها مرآة تعكس صورة نظيفة وحديثة ومنظمة للعاصمة العتيقة. حاليا تفخر مدينة السادات بأن عدد سكانها يزيد عن 150 ألف مواطن، لتصبح (بعد كفاح) أحد مراكز محافظة المنوفية على حدودها الغربية، وانضمت المقرات الوزارات الافتراضية إلى جامعة المنوفية، بينما لا يزال ركاب وسائل المواصلات الداخلية يستلهمون أسماء المحطات من الوزارات التي لم تحل أبدا في مدينتهم.
في أيام السادات، بدأت مشاكل القاهرة بالتفاقم، لكن لم يكن الزحام وانهيار الخدمات هو ما دفعه لمحاولة إنشاء عاصمة جديدة. كان السادات يرى أنه يؤسس لنظام جديد مشتق من دولة يوليو، نظام جعله يواجه انتفاضة واسعة في 1977 وانقلاب دولاتي قبلها، لذا كان من المنطقي أن يسعى للهرب من تلك المدينة الضخمة التي تمتلئ بالجماهير المتحفزة. قفز السادات إلى الشمال الغربي بمدينة تحمل اسمه، لكن لم يكتمل مشروعه وأصبح مجرد ماكيت ساخر لعاصمة إدارية.
تاريخ مدينة القاهرة كله، منذ ما قبل نشأتها حتى، كان عبارة عن محاولات مستمرة من أصحاب سلطة جدد للهروب من جمهور المدينة وتأسيس عاصمة جديدة. أسس العباسيون مدينة العسكر كمركز لدولتهم، وكانت ضاحية عسكرية لمدينة الفسطاط التي كانت عاصمة سابقة أسسها العرب، ولمدة 77 عاما مُنع العامة من سكن االعسكر، ثم تتكرر القصة بحذافيرها في إنشاء مدينة القطائع، ثم القاهرة ذاتها.
التصميم الأولي للقاهرة كان يجعلها أشبه بمجمع “كومباند” سكني وإداري للنخبة الحاكمة الجديدة التي جاءت من أقصى غرب القارة، لذلك كان سور المدينة هو أول المنشآت بعد قصر الحكم، ولم يكن ممكنا إغلاق المدينة على النخبة الحاكمة وحدها، فكان كومباوند القاهرة مفتوحا للعامة بشروط خلال النهار، مغلقا تماما أمامهم (وكذلك الغرباء) أثناء الليل، واستمر هذا الوضع لمدة 200 عام.
ما الذي يمكن أن يحدث خلال 200 سنة؟ فقدت الدولة الفاطمية هيبتها، استمرت القصور في الحكم، بينما ترنحت المدينة. في هذا الزمن وصل الصليبين إلى ساحل النيل، فاضطر آخر خليفة فاطمي إلى إحراق المدينة الأم؛ الفسطاط التي ارتفعت ألسنة اللهب بها لمدة 45 يوما وفقدت أهميتها كعاصمة تجارية وصناعية للأبد، فلاذ أهلها الجوعى بعاصمة الخلافة، ونزلوا بالمساجد والحمامات والأزقة. تهافت عسكر الدولة، فامتلأت الحواري المقطوعة لهم بالحرفيين والتجار والحرافيش. سُبكت المدينة الحقيقية على ألسنة النار.
المدينة الجديدة كانت أصعب مراسا، التهمت العواصم الأولى كلها وهضمتها تماما، ثم استمرت في التوسع، لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي وجد نفسه بحاجة إلى بناء سور آخر قوي يرسم حدودها الجديدة بحزم، وكأنه كان يسعى يائسا إلى تحجيم تلك المدينة الشرهة لالتهام كل ما حولها
كرجل قضى معظم حياته في الحرب، كانت إضافته الراسخة هي “قلعة الجبل” التي صارت مقرا للحكم في مختلف الدول اللاحقة، لم يؤسس صلاح الدين مدينة جديدة كأسلافه، ولكنه كان أكثر عملية وأسس فقط مركزا جديدا ومحصنا الحكم، ومن فوق نتوء بهضبة المقطم، أطلت القلعة على المدينة، وحافظت على هيبتها لعدة قرون كطرف حاكم بدون التورط في صراعاتها الاجتماعية، خلال هذه الفترة، اجتاحت المدينة السور نفسه، كما عبرت النيل، واقتحمت هضبة المقطم.. بالنسبة للحكام التاليين، لم تعد القاهرة قابلة للتحكم في عمرانها، وأصبح عليهم العيش معزولين في القلعة، مع محاولة التخطيط الداخلي بدلا من محاولة الترويض.
يبدو الأمر حتميا؛ نشوء سلطة جديدة يتبعه دوما تأسيس عاصمة يحتمي بها الحكام الجدد وحاشياتهم، بل إن هذه الحتمية تخطت غرائب وعجائب العصور الوسطى، في 1960 قرر الحكام العسكريين في البرازيل إنشاء عاصمة إدارية بدلا من ريو دي جانيرو، كانت المبررات هي تطوير منطقة الغرب الأوسط بعيدا عن الساحل، كانت أفكار التخطيط المركزي رائجة في وقتها، هكذا نشأت العاصمة برازيليا، عاصمة نظيفة ومنظمة تستحوذ على أعلى نصيب للفرد بالناتج الإجمالي المحلي في البرازيل، لكن رغم هذا، وخلال 55 سنة منذ إنشائها، لم يصل سكانها إلى 3 ملايين نسمة.
لذلك يبدو هروب نظام السيسي من القاهرة حتميا هو الآخر. تلك مدينة التهمت نظاما سابقا بالكامل خلال عدة ساعات، وبخلاف عدة أحياء قليلة تحمل بقايا تخطيط قديم، فإن العاصمة محاصرة بكتل سكانية مصمتة لا تحمل أدنى احترام للدولة التي يعجز جهازها الإداري عن إنقاذ نفسه. المسألة واضحة تماما من المنظور العسكري.
أم ظبي؛ اسم مقترح للعاصمة الجديدة في مسابقات أطلقها الإعلام، في إشارة إلى الدولة التي تعهدت بالتمويل والإنشاء، لكن الإشارة الأعمق هي لمحاولة استنساخ إحدى واحات ناطحات السحاب الصحراوية، بنمطها الاجتماعي الذي يعتمد على السيطرة المادية والمعنوية.
لكن المدن الحقيقية لا تنشأ بقرار دولة أو نظام؛ كانت الفسطاط عاصمة لما يزيد عن القرن ثم تحولت إلى غبار لدرجة أن أحد الأثريين كان مشروعه هو محاولة تحديد موقعها الأصلي، ومن الغبار قامت مدينة دمياط بعد تسويتها بالأرض تماما أثناء الحروب الصليبية، بينما ظلت مدينة السادات مجرد محاكاة ساخرة لعاصمة لم تكن، تبدو الواحات الإسمنتية في الخليج وكأنها تتحكم في خيوط تشد عواصم نشأت قبلها بمئات السنوات، لكنها مخوخة تماما في مواجهة حدث عارض مثل دولة داعش.
تنشأ المدن الحقيقية بسبب تفاعلات اجتماعية يمارسها أبناؤها على خط تاريخي مستمر ومتقطع، لا تنشأ بسبب عبقرية المكان، بل ربما تنشأ لأكثر الأمور تفاهة، مثل قبور الأجداد، أشجار وأبار، ثنيات اعتاد عليها المسافرون، أو حتى أحجار غشيمة حملها أهل البلد بالسخرة، لكنهم يشعرون بملكيتهم لها أكثر ممن أمروا باقتطاعها ورصها في أسوار.

تم نشر نص هذا المقال في موقع "زائد 18" بتاريخ 16 مارس 2015

Saturday, March 21, 2015

العنصرية الوسطية الجميلة

بعد أن قدمت “منى البحيري” فقرة من الردح الفني بإنجليزيتها الركيكة في برنامج “آراب جوت تالنت”، كتبتُ على صفحتي في فيسبوك أن هذه الفقرة يمكنها أن تصبح نهاية فنية رائعة لفيلم وثائقي عن العلاقات المصرية السعودية.. لاقى ما كتبته نجاحا وانتشارا مريبا، ثم وجدت نفسي متورطا طوال الأسبوع في نقاشات أبرزت لي تعقيد وجماليات العنصرية المصرية الأصيلة.



طبقا للنصوص المقدسة في كتاب "شخصية مصر" للراحل "جمال حمدان"، فإن الشخصية المصرية، بشكل ما، ظلت طوال التاريخ متفردة عما حولها من الشعوب، وأن المستعمر يذوب رغما عنه في الشخصية المصرية، كما يسعى بدو الصحراء لغزو شخصيتنا بتصدير التطرف.
الحقيقة أنه أثناء انشغال الغرباء في الذوبان الحضاري، كانت لغتنا العامية الجميلة تمتص آلاف الألفاظ والتراكيب من لغاتهم، وبينما نؤلف المزيد من النكات عن أهل الخليج، كنا نقتبس من أنماط حياتهم بالأطنان، بما في هذا طريقتهم في التدين. لقد طبخنا لأنفسنا شخصية هلامية لكي نخفي شيئا بسيطا: أننا ضعفاء، وأننا نتأثر بالآخرين أكثر مما يتأثرون بنا.
عزيزي الوطني، إذا كانت هناك شخصية مصرية، فلا يوجد أدق من هذا للتعبير عنها: امرأة فقيرة ذات تعليم سطحي، موهبتها الوحيدة هي قدرتها على شتم رئيس أكبر دولة في العالم، بينما يتلقى ابنها رصاصة مجانية من أحد أفراد الشرطة، ويموت أحد المصريين فرحا لأنه حصل على أنبوبة بوتاجاز.
وطبقا لنص آخر أقدم وأكثر قداسة، فإن المصري متدين بطبعه.
إذن، كون المرأة ترتدي الخمار، فهذا ينفي عنها صفات التنطع والتلاحة والاستعباط.. قطعة النسيج الصناعي التي ترتديها كفيلة بمنحها صورة أخلاقية أفضل عند بعض الإخوة، فمن العيب أن نصف امرأة ملتزمة بهذه الأوصاف.
أخي المؤمن.. كرر هذه الجمل 10 مرات لكي تتقنها: النطاعة والتلاحة والاستعباط لا دين لهم.
وطبقا لألبومات صور مصر في الماضي “من الثلاثينات وحتى السبعينات”، فإن الزي هو حرية شخصية، لكن تُقاس حضارة الأمم بمدى تغربها، بينما الخمار هو علامة على التخلف والتطرف.
حسنا، بينما يهلل المتصارعون في الإعلام وفيسبوك على ارتداء الحجاب أو خلعه، يكتسب الخمار شعبية واسعة وسط ملايين السيدات في الشوارع الشعبية والقرى.. ببساطة لأنه رداء سهل، يناسب امرأة مضطرة للسعي من أجل أسرتها، ولأنه لا يبرز درجة فقرها وسط الفقيرات الأخريات.. إنه اتفاق ضمني بين النساء على عدم التميز.
صديقي المثقف، أنصحك بمشاهدة صور مصر في الألفية الثالثة: إنها سوق عشوائي ضخم تبدو فيه أغطية الرأس مثل أمواج البحر، حيث ترتدي معظم النساء أنواعا مختلفة من الأزياء، غرضها الأساسي هو الستر، وألا تكون مطمعا للغرباء أو موضوعا لتنطع أقربائها.. قضيتك في التنوير الإجباري ستبدو كوميدية جدا هنا. 

نُشر هذا المقال في موقع "زائد 18" بتاريخ  3 مارس 2015