Pages

دليفري للبهوات

Wednesday, October 2, 2013

مقدمة في نسيان مذبحة ماسبيرو



في مساء الأحد 9 أكتوبر 2011، في ذكرى تحل بعد أسبوع من الآن، وقعت مذبحة ماسبيرو التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 24 متظاهرا.. معظمهم من الأقباط.
في هذا اليوم كنت أقوم بعملي كمحرر في قناة التحرير ببرنامج "في الميدان" الذي يقدمه الأستاذ إبراهيم عيسى، ومن ضمن واجباتي متابعة المراسلين العاملين على الأرض، ومنهم هدير صبري التي صاحبت مسيرة ضخمة للأقباط خرجت من شبرا.
كان يوما عاديا بمقاييس تلك الأيام: كنيسة احترقت وغضب الأقباط لحرقها فقرروا الاعتصام أمام مبنى ماسبيرو، وفي يوم 4 أكتوبر قامت قوات الأمن المركزي ومن بعدها الشرطة العسكرية بفض اعتصامهم بعنف، ولهذا قرر الأقباط الخروج بمسيرة ضخمة للاحتجاج، وتعرضت مسيرتهم لاعتداءات عند كوبري السبتية، مواطنون شرفاء غالبا (رغم أن المصطلح لم يكن تبلور وقتها). لا خبر جديد، يوم عادي من تلك الأيام.
كان زملائي في البرنامج قد بدأوا في الوصول عندما وصلت معهم الأخبار: الجيش يطلق النار على المتظاهرين ويدهسهم بالمدرعات.
أن يطلق الجيش نيرانه على المتظاهرين، كان هذا حدثا، لكن لم يكن غريبا، الغريب هو كون الضحية من الأقباط، وهم كانوا معروفين بعدم ميلهم للعنف، سجلهم نظيف في هذا الشأن.
لهذا كنت متشككا، واتصلت بهدير لأسألها عن الأحداث، وروت الأحداث بمنظور لا يختلف كثيرا عما نعرفه حاليا بمذبحة ماسبيرو، لكني كنت مصرا أنا أسألها في كل تفصيلة "شفتِ بعينك؟ دم دم؟ مدرعات الجيش؟".. وكان تأكيدها هو الإجابة. قضيت الوقت التالي في تجميع فيديوهات من على الإنترنت وتجهيز مواد من شرائط الفيديو التي أرسلتها هدير.
قبل البرنامج بأقل من ساعة، جاء الأستاذ إبراهيم عيسى إلى غرفة التحرير. لم يكن معتادا أن يفعل هذا، فقد كان معتادا أن يذهب إلى غرفته ومنها مباشرة إلى البلاتوه، لم يخرج عن عادته تلك إلا في الحلقة الأولى، وبهذا اليوم.. فقط.
كان واضحا علينا الارتباك، أنا شخصيا كنت غاضبا بشكل يمنعني من التركيز في كل شيء، لهذا  اقتنعت وقتها بملاحظته عن الأحداث: أنه يستحيل أن يقوم الجيش بهذه المذبحة لأن تسليحه أقوى وأغشم من هذا، وبحسبة بسيطة، إذا فتح الجيش نيرانه على المتظاهرين، لن يتوقف رقم الضحايا عند دستة كما بلغنا وقتها.
كنت أريد أن أعرض عليه الفيديوهات التي جمعتها فذهبنا سويا لغرفة المونتاج، وبصراحة لا أتذكر ملاحظاته عن الفيديوهات، لكن أتذكر أنه تحدث معي عن أن هذا ليس أسلوب الجيش أو الداخلية، والأخيرة لو أرادات منع المسيرة لكانت ضيقت عليها وأرهقتها بالهجمات الجانبية. قلت لنفسي أنه تفكير استراتيجي صحيح، لكني اندهشت من درايته به.. لم نكن وقتها قد تمرسنا جدا على علوم الكر والفر، كما أنه يفكر من زاوية الشرطة لا المتظاهرين.
قبل البث على للهواء بدقائق، أبلغنا في غرفة التحكم أن نتصل بهدير: عليها أن تكون هادئة في مداخلتها، بدون تأثر أو زيادات عاطفية. كان الأمر حاسما، مع مسحة تهديد.
عملي في غرفة التحكم به دستة واجبات على الأقل، لهذا لا أتابع الحلقة غالبا إلا في نهايتها عندما يهدأ الإيقاع (أتفرج عليها معكم الآن كأنها المرة الأولى)، ولهذا لا أتذكر الآن من الحلقة إلا ضيوفها.. كانت هناك منى مينا التي كانت مكتومة، طبيعتها في الأصل هادئة ولكنها كانت في هذا اليوم مكتومة كمدا (وربما كانت تلك الليلة الأخيرة التي تظهر فيها بشعر غير أشيب)، ومعها جاء كمال أبو عيطة وآخرون لا أتذكرهم. استغربت من وجود كمال في هذا اليوم وحديثه عن النشاط النقابي.. لكني لم أستغرب من إصراره على أن يكون كلامه مطمئنا للمشاهدين، كرر أكثر من مرة أن الأمر لن يوقفنا وسنتجاوزه وسنكون أفضل، لكنه كان يبدو وكأنه يريد أن يتفادى الكلام عن الحادث.
لم أستغرب من كلامه لأني كنت أحتاجه، كنت أحتاج لمن يطمئني.


======================================

والباقي تعرفونه: شريط تليفزيون ماسبيرو يؤكد مصرع اثنين من جنود الشرطة العسكرية بأيدي الأقباط. مذيعة الأخبار رشا مجدي وهي تطالب المواطنون بالنزول من بيوتهم لحماية الجيش. أهالي بولاق أبو العلا تطوعوا لخدمة السلطة كعادتهم. ملتحون يتقدمون الدبابات في ميدان التحرير وعبد المنعم رياض ويهتفون ضد القتلة من الأقباط. مدرعات مرتبكة. مظاهرات للقصاص ثم محاكمات صورية لم تسفر عن شيء.
وما نعرفه ولا نتحدث عنه: بخلاف الثوار المحترفين، معظم الناس كانوا مؤيدين للجيش، قابلت سيدة مسنة تترحم على أحد الجنديين المقتولين ولم تنتبه أصلا للقتلى الأقباط ولا كونهم أضعف وعُزل، رجل عجوز آخر كان ينظر للمدرعات وهي تدفع أجسادهم ولا يرى إلا أنهم يلقون بأجسادهم أمامها، هؤلاء كانوا من أقاربي، متعلمين ومستقيمين ورحماء.. إلا فيما يخص الدولة.
وما تعرفونه وتتجاهلونه: أن الأستاذ، إبراهيم عيسى، ظهر منذ أيام وهو يقول أن قتلى رابعة لا يزيد عددهم عن 300، وهو رقم قليل، أما كمال أبو عيطة فقد أصبح وزيرا للقوى العاملة، وكانت أهم إنجازاته هي التصالح مع اتحاد نقابات عمال مصر، وهو الاتحاد الذي قضى حياته محاولا الاستقلال عنه، واليوم فقط قامت قوات الشرطة بفض اعتصام للعمال من أمام وزارته.
وما عرفته وأرغب أن أنساه: أن الأقباط، على الأقل من أعرفهم وتكلمت معهم مؤخرا، قرروا نسيان تلك الليلة.
وما أعرفه ولا أنساه: مشهد لمدرعة تعتلي تلا أنا في أسفله، مقدمة المدرعة تعلو وتعلو وأنا مستسلم، صار هبوطها عليّ أمر واقع لا محالة، وأفكر رغم رعبي في مقدار الألم بعد أن يفرم جنزيرها لحمي وعظمي. لقد توقف هذا الكابوس عن مهاجمتي، أو لم يتوقف، لا أعرف، فصورة المدرعة المجنونة واللحم المفري لا تفارقني.
يسمونها أحداث ماسبيرو، هي عندي مذبحة.. ولازالت.