Pages

دليفري للبهوات

Friday, January 14, 2011

غ من غبريال

استمد أستاذ غبريال سطوته المرعبة علينا من حرف واحد في بداية اسمه، غ في غبريال، وهو ليس بحرفٍ بسيط.

--------------------------

كان سلاح المدرس يكشف الكثير عن شخصيته، العصى التقليدية كانت تخص أستاذ لا يخطط كثيرا للضرب، لكنه ينهمك فيه بسهولة، وتوفر له العصى الخشبية فرصة استهلاك جل طاقته في ضرب الطالب دون أن يشعر، وهو ما يصنع له حاجزا جسديا يمنعه من الانزلاق نحو الأذية الزائدة.

أما الخرزانة فهي تعتلي قمة الهرم العقابي، يحملها أستاذ يأخذ مهنته بشكل جدي، يستثمر جهده في صنع سلاح يؤلم ولا يؤذي، فيقضي ساعات في اختيار الخرزانة، وربما يكون أكثر إبداعا فينتظر عليها أيام أخرى وهي منقوعة في الزيت لكي تكتسب قساوة ومرونة في ذات الوقت، ثم يمنحها شخصيتها المتميزة بالشريط اللاصق الذي يلفه حولها، ويرتفع بها لمصاف القطع الفنية فيزينها بأكثر من لون، ويزيد من سماكة النهاية التي سيمسك بها لتصبح كأنها جزء مكمل لقبضته فتبدو للعيال مثل السيف الذي لا يسمح إلا لبطل واحد أن يمسك به، ويتجنبون الإمساك بها من ناحية القبضة رغم الإغراء الكبير بلعب دور الأستاذ مستخدمين خرزانته. آخر شيء هو إطلاق اسم أنثوي على الخرزانة يساعد في تثبيت سمعتها الحارقة.

يعامل الأستاذ خرزانته كأنها أحد أفراد عائلته، رغم أنه لا يعود بها للبيت أبدا، ويخصص مكانا سرية لإخفائها بغرفة التدريس، و ينهار إذا فقدها، وربما ينتقل إلى مدرسة أخرى.

السلاح الأخير كان الجِلدة، وهي جزء من سير حلقي مطاطي يتم قصه فيصبح مثل الحبل، ويتم تقصيره أو تقسيمه حسب الحاجة، الطلبة الأصغر يحتاجون عادة لجلدة أطول لأنهم يحاورون ويناورون لتفادي الضرب، والجلدة الطويلة تغري بفقدان الأعصاب، بينما القصيرة تحتاج سيطرة أكبر على الغضب. ويسهل حمل الجلدة لأي مكان ولا تحمل أي أهمية عاطفية لصحابها.

كان أستاذ غبريال يلف الجلدة داخل جريدة يضعها تحت إبطه دائما، ولا يفتح الجريدة إلا داخل الفصل.

لم يكن الأكثر عنفا بين الأساتذة، ولم يكن يهتم كثيرا بطابور الصباح الذي كان يتحول إلى حفل مسموح فيه لأي أستاذ بأن يُبرز ذكورته أمام المدرسات والعيال عبر استخدام حنجرته بإفراط والدوران بين الصفوف وافتراس أي عيل بدون إبداء الأسباب.

على العكس، كان أستاذ غبريال يقف أمام طابور فصله في هدوء، ويحمل وجهه ابتسامة ميكانيكة ولا يتدخل فيما يحدث حتى لو اخترق أستاذ آخر صفوف فصله خلال فورة نشاطه الذكوري، وهو اختراق كان يعده باقي الأساتذة تعديا على منطقة النفوذ، ولهذا كان فصلنا دائما عرضة للاختراق.

على عكس باقي أساتذة الرياضيات، كان أستاذ غبريال مهندما رغم أنه لا يغير البلوفر الذي يرتديه صيفا وشتاءً، كان وجهه حليقا بخلاف زملائه المحبطين. كانت الابتسامة الميكانيكية تختفي بمجرد دخوله الفصل، يفتح الجريدة ويُخرج الجلدة وكشكول التحضير ويبدأ في تناول مسائل الجبر والهندسة.

كانت سطوته المرعبة تسيطر على صف الدكك الأول الذي كان يتلقى أسئلته كلها ويجيبها، رغم أنه لم يستخدم الجلدة أبدا، وفي الصفوف الخلفية كان هناك قانون خفي للاحترام بينه وبين سكانها.. هو لا يسألهم وهم يتحولون إلى تماثيل بكماء في حضوره.

كنا في الصف الأول ننطق اسمه كأنه لفظ من لغة قديمة تستخدم كلمة واحدة للدلالة على الشيء بدون أن تحمل هذه الكلمة معنى أعم أو أكثر شمولا، كان غبريال يعني غبريال، كأنه هناك منذ بداية اللغة، أو قبلها، فلا يحتاج أن يُنسب لمعنى أو ظرف.

طوال حياتي لم أقابل إلا غبريال واحد، الاسم نفسه يحمل غرابة لا يمكن تجاهلها. عرفت لاحقا أنه مشتق من اسم "جبريل" كبير الملائكة بعد تأثره بالنطق العبري "جبرئيل" ثم انتقاله للاتينية "جبريال"، ثم عودته إلى العربية وتغيير الجيم المصرية إلى حرف غ كما يحب الشوام، وكما تعود سكان الخليج على أيديهم.

كنت أستغرب لأن الاسم لا يحتاج لاستبدال حرفه الأول، فالجيم من البداية معطشة، لكن رحلتها إلى الغرب هي التي أزالت التعطيش منها. نحن المصريون كعادتنا نمتلك مكانا إضافيا حميما لكل شيء يستجد أو يتطور، وكان يمكننا تقبل الاسم كما هو بوجود الجيم المصرية غير المُعطشة، لكن يبدو أن هناك من قرر أن يمر جبريال أولا على بوابة الشام ليصموه هناك بحرفهم البديل.

ربما كان والده يقصد الإشارة لكل تلك الرحلة الطويلة باستخدام الاسم على هذه الطريقة.

ولسبب لا أعرفه، كان أستاذ غبريال يكرهني، ولم يكن هذا بالشيء السهل بالنسبة لتلميذ جبان ومتملق مثلي.

جاء أستاذ غبريال كبديل لأستاذ رمسيس الذي تُوفي في منتصف العام، كانت لديه نتائج الاختبارات الشهرية لكي يُدرك خريطة الفصل الدراسية، كان من السهل إدراك أنني نجم الفصل في الحساب، وأنني أعاني كثيرا في الهندسة. قرر أن يغير قواعد اللعبة بإجراء اختبارات أسبوعية.

بدا كأنه فوجئ عندما حللت أول امتحان حساب بدون خطأ واحد، وأسرع بكثير من أقرب منافس، وفي الأسبوع التالي نقلني بجوار زميل آخر ليتأكد من أنني لا أغش، ثم ألقى بي في الخلف بجوار التماثيل البكماء. في كل مرة تكررت ذات النتيجة، وانتقاما منه كنت أتحداه بأن أنهي الاختبار أسرع ثم أسمح للتماثيل بالنقل مني مما قلب الخريطة أمامه تماما.

الأول جاء من الصف الخلفي والتماثيل ينجحون ببراعة، لكنه انتقم بمنعي من المشاركة في أوائل الطلبة.

أعتقد أنه لم يتوقف عن التحرش بي إلا عندما رسبت في اختبار الهندسة وحصلت على صفر نادر الحدوث حتى بالنسبة للتماثيل البكماء.

تحولت بعدها إلى طالب عادي ولم تعد تهمه درجاتي، وبعد فترة اختفت الاختبارات الأسبوعية.

في العام التالي فوجئت به يناديني وهو جالس على مقعد تحت شجرة بجوار غرفة المدرسين، لم أعد الآن في مجال تأثيره بعد أن تولانا أستاذ آخر كئيب لا أتذكر اسمه حتى. لا يزال اسم غبريال مرعبا، لكنه صار يرمز لشيء عتيق، ومع هذا كنت أرتعد بداخلي وأنا أتقدم نحوه.

- قول لي يا محمد.. 22 في 3 تساوي كام؟

- 66.

- طيب واحد ونصف في خمسة.

- سبعة ونص.

- طيب اجمعهم.

- 73 ونص.

- زائد عشرة في المية؟

- 80 و...... 85 من المية.

- زوّد عليهم 34.

- 114 و.....

- مش مهم الفكة، شيل منهم 2 إلا رُبع.

- تبقى 112 وربع.

- طيب.

أنهى أستاذ غبريال آخر محادثة بيننا بأن خفض رأسه وسرح بنظره في مكان ما بين ساقيه، ولحظتها تذكرت أن ابتسامته الميكانيكية كانت قد اختفت منذ وقت ما لا أدركه، وأن ملابسه لم تعد مكوية ومهندمة كما سبق، بل أن خيط صوفي انسل من نسيج البلوفر، وبدا أنه سيستمر في هذا.

Monday, January 10, 2011

أوهام مشمسة

كانت شبورة خفيفة ساكنة في حالة انعدام الوزن فوق تربة الحوش، وكان الشيطان جالسا فوق السور القصير في وضع غير مريح، ممسكا بساندوتش فول في ورقة جريدة، وسألني "أنت اللي بتلعب مع عماد؟"، هززت رأسي أن "نعم"، قال وهو يدس الساندوتش في فمه "ده مسيحي.. ماينفعش تلعب معاه".

------------

هذه معلومة لمن لا يعرفون معنى أن تكون جديدا في مدرسة أميرية، وأن تكون قادما من مدرسة خاصة حيث الميس والكلاس مقارنة بالأبلة والفصل، وأن تكون عضوا خبيرا في مدرستك ثم تنتقل إلى قاع السلسلة الغذائية في الصف الأول بمدرسة جديدة.

لا شيء. هكذا يجري الأمر عندما تكون جديدا وصغيرا ورقيقا بفعل معاملة الميس، أنت تكون لا شيء، أو قيمة مهملة بجوار اللا شيء، لن يتحرش بك الأشرار لأنك لم تصل بعد للمرحلة التي فيها يصبح التحرش بك مجديا، الحوش وقت الفسحة كان كوكبا حديث العهد بالحياة تتصارع فيه بصخب ديناصورات ضخمة وطيور مفترسة وحيوانات غير عاقلة، لهذا لا يهتم أحدها بثدييات الصف الأول التي تنتقل برعب من جحر لآخر.

لم يكن الأمر دائما هكذا. في يوم ما قابلت عماد القادم من الصف السادس، لم أكن أجرؤ على طلب اللعب معه، لكنه هو الذي طلب. كانت لعبتنا بسيطة، أن أجري ورائه طوال فترة الفسحة، ولم أكن ألحق به أبدا، لكنه كان يعود إليّ عندما أسقط، يساعدني في القيام من جديد ثم يهز رأسه للخلف وينطلق جريا وأنا وراؤه. لم تكن لعبة عادلة، لكنها أفضل من البقاء مع الثدييات.

لا أتذكر من ملامحه سوى البثور التي كانت تملأ وجهه، وتضح أكثر عندما يبتسم، كان يرتدي قميص وبنطلون على خلاف الثدييات التي ترتدي المريلة، ومع مرور الوقت جاء صديق آخر له، وأصبحت أُطارد اثنين، لكنني صرت شخصا له أصدقاء. لم يكن يتدخل إذا ما داس علي أحد الديناصورات، ولم أكن لأطلب منه هذا، لكنه الشعور بفرصة الانتماء لفصيلة أعلى.

لكن في ذلك اليوم الغائم، والولد كثيف الشعر الذي لم أره قبلها مستمر في التهام ساندوتش الفول، سمعت لأول مرة كلمة "مسيحي". أكتشف الآن أن أهلي وأسرتي لم يذكروا هذه الكلمة أبدا خلال طفولتي، ربما لأني كنت قيمة محايدة بين كل الأديان، أو ربما لأنهم لا يهتمون، أو لأن الموضوع مثل الجنس يتأجل الحديث به إلى ما لا نهاية.

يومها لم أفهم معنى أن يكون عماد مسيحيا، لكنني عرفت أنه شيء آخر لا يمكن أن أصبحه.

قلت له أنني لن ألعب معه لأنه مسيحي، فاستدار وانصرف هو وصديقه بدون كلمة واحدة. عرفت الآن معنى المشهد السينمائي الشهير عندما تهبط يد الأب على وجه ابنه فينظر ليده المهتزة بذهول وبغض، وعندما يغرس البطل سكينه الغاضب في أحشاء حبيبته فينهار معها بيأس وضياع. لا يحتاج الأمر لمرور الوقت حتى نشعر بالندم على بعض أفعالنا، هذه الأفعال كأنها تحفز الندم بمجرد انطلاقها.

أتذكر مئات الإهانات التي طعنت بها الأصدقاء طوال حياتي، وكيف كان يمكننا مسح الإهانة والاستمرار من جديد. لكن عماد لم يقبل بهذا.

قابلته بعدها مرة واحدة فقط، ولم أجد فرصة لأكثر من التحية العادية، ثم غادر ولم أره مرة أخرى.

عندما أتذكر تلك الحكاية، أعتقد أحيانا أنها من اختراع خيال الطفولة الخصب، بداية من عماد ذي النمش، وصديقه عديم الاسم، فتى الفول الذي لم أره قبلها ولا بعدها، والشبورة الغريبة التي لفت ذلك اليوم الكئيب. لكني أتذكر جيدا طعم التراب في فمي وأنا أجري لاهثا بلا انقطاع وسط الديناصورات التي لا تعبأ بي، مطاردا من أظنهم الآن أصدقائي، في يوم مشمس لا يمسه ضباب.

Wednesday, January 5, 2011

الآن أصمت

لا أعرف، هناك أمور تبدو معقدة أثناء التفكير بها، لكنها تنحل تلقائيا عندما تبدأ في الكتابة عنها، الكتابة تشجع على التفكير، تجبرك أولا على تفريغ الكراكيب التي تملأ رأسك في ورقة لتبدو كأسوء ما يكون، ثم يمكنك تجميع هذه الكراكيب العصبية لتصل إلى الشكل القابل للتداول مع الآخرين.

شخصيا لا أحب أن أبدو نصف عاقل بلوحة كمبيوتر تتيح له تسجيل ما يشاء، كما أنني أخاف أن يُساء فهمي، حتى لو كان جمهوري يتلخص غالبا في شخص واحد (صيدلي وكاتب تقع مدونته على الناصية القريبة من مدونتي ويشجعني دائما بتعليقاته).

لهذا كنت قد قررت الانتظار لأطول فترة ممكنة قبل أن أتكلم عن حادث تفجير كنيسة الإسكندرية (وكأن أحدا ينتظرني لأكتب بينما هناك مليون صفحة على الأقل عن الموضوع). لن أبدأ بمدخل التنديد ووصف الحادث بالإرهابي، فهو كوصف الماء بالماء، وهو ميزة تجدها لدى من لا يتوقعون أن يسمعهم الكثيرون. قل شيئا جديدا ومفيدا، أو اصمت الآن.. هكذا أقول لنفسي.

اسمع أنت الآن.. كل شيء متصل ببعضه، نحن نعيش في شبكة أوان مستطرقة كونية، ما تعتبره حدثا اليوم هو مجرد خلفية لحدث الأسبوع القادم. عندما أبلغني صديق بوقوع الحادث بعد ساعة تقريبا من وقوعه، تذكرت سؤال وجهته له الصيف الماضي: هو الإرهابيين راحوا فين؟

لم يكن سؤالا بالمعنى الفني لعلامة الاستفهام، كنت ألفت نظره إلى أن جزء من توحش "لا نظام مبارك" (حقوق الملكية ترجع لمحمد طعيمة في تلك التسمية) يرجع إلى كونه قد تغلب على معظم خصومه المحليين والخارجيين (لا تصدق أن الأخوان خصوم له)، في التسعينات كانت الجماعات الإرهابية وظهيرها المتطرف شوكة في جانب مبارك ونظامه (سأتوقف هنا عن كتابة "لانظام" لأنها مربكة للعين وعليك فهمها ضمنيا بعد ذلك)، لم يكن هذا المقاول الكبير يجرؤ على بيع الغاز لإسرائيل والتآمر في وضح النهار ضد الفلسطينيين وضرب المعارضة وحماية اللصوص بينما جبهته الداخلية غير آمنة وكرسي الحكم لا يزال دافئا بعد اغتيال صاحبه السابق.

كان مضطرا لتنفيذ خططه في الخفاء خوفا من هؤلاء، مع بناء منظومة ضخمة للإلهاء الإعلامي والسياسي تستخدم الإرهابيين أنفسهم في استجداء الغرب، وكان مجبرا على معادلة ضخمة تتطلب القضاء على الإرهاب بمساعدة باقي المجتمع.

عندما كنت طفلا لم أفهم أن تفجير شارع شبرا كان موجها ضد الأقباط (المسيحين يا سيدي فكلنا أقباط بالتاريخ)، فهمت فقط أن الناس كانوا يمشون ويتاجرون ثم هبت عليهم موجة نارية من المسامير والشظايا لتطيح بأشلائهم دون ذنب يُذكر، ومقارنة باغتيال رفعت المحجوب، كنت أرى (وأنا طفل والله) أنه الأخير صراع بين حكومة فاسدة وإرهابيين يائسين لا يستدعي تعاطفي مع أي من النوعين، من موقع الطفولة لم أكن راصدا جيدا للمجتمع من حولي، لكني أشهد أن الجميع كان ينظر بتبلد إلى صورة سائق المحجوب وجمجمته مهشمة على زجاج السيارة. كان هذا مثل حوادث السيارات، بشع لكنه لا يستدعي اهتماما أكبر من اختلاس النظر على جانب الطريق.

أقارن هذا بقشعريرة إنسانية وجدتها عندما رأيت صورة امرأة من ضحايا الحادث، وقد تجرد مخها من عظم الجمجمة وجلدها وشعرها، صديق لي نشر الصورة بغرض إجراء صدمة لهؤلاء الذين يتعاملون مع التفجير على أنه "مجرد حادث"، وها أنا قد ساعدته في الترويج لصورة المرأة المسكينة.

لا أعرف، أعتقد أنه لا أحد يتعامل معه من هذا المنطلق، زملائي المسيحيين في العمل قالوا لي أن سلوكي كان اعتذاريا (شخصيا أرى أنه لا يجب عليّ الاعتذار عن سلوك لا يخصني ولم أقره مسبقا كما أن الاعتذار هنا إجراء سخيف وغير مفيد)، زميل آخر من النوع الذي يغطس في اللعب بهاتفه البلاكبيري الجديد عندما تأتي سيرة السياسة، جرب وضع علامة الهلال والصليب على صفحته بالفيسبوك ورأيته يتفحص متحسرا صفحة "مريم فكري" التي راحت ضحية الحادث. على نطاق أوسع، كانت هذه أول مرة أرى إدانة من الداعية السلفي محمد حسان، وأثناء إنهاء التدوينة اتصل بي صديق آخر يستغرب أنني لن أشارك اليوم في صلاة الدروع البشرية وقال إنه سيذهب ليعزي ويشد على يد أي شخص وخلاص (سيحتاج لارتداء جلباب أبيض ويطيل لحيته حتى يكتمل مشهد العزاء التليفزيوني).

المصريون عفويون. هناك من أشار في البداية إلى حادث العمرانية كمحفز للتفجير، لكن بمجرد انتشار الصور والفيديوهات انكتم الجميع وهو يتخيلون أنفسهم جثثا ممزقة على جانب الرصيف لمجرد أنهم مروا أمام كنيسة في الوقت الخطأ. إذا اقتربت منهم أكثر سيشعرون بالربكة، ثم يرددون عبارات فارغة حفظوها من أفلام حسن الإمام ونشرات التوعية التليفزيونية.

وكعادته، لم يُقصر الإعلام في التنديد (التنديد يصيب بالإدمان وهو ضار جدا بالصحة)، في صبيحة الحادث استدعى برنامج "صباح الخير يا مصر" أحد المشايخ وتركوه يتحدث في الفترات التي يعجزون فيها عن الوصول إلى مصطفى الفقي وعلي الدين هلال (الأول بذل مجهودا مضنيا في جميع القنوات لدرجة أنك تكاد تحسبه مذيعا محترفا بدوام جزئي)، وندد الأزهر (هل في ذلك خبر؟)، وخرج مبارك من عزلته في شرم الشيخ ليضيف تنديد رئاسي آخر، كما توقفت مجالس الشعب والشورى والموازي عن تسليتنا ونددت (تم تأجيل جدول التسلية لأسبوع على الأكثر)، التقط المشايخ صورا مع القساوسة، وسار رجال الإعمال مع عمال مصانعهم في وقفات (تخيل!)، شارك الفنانون بنظاراتهم الشمسية (والفنان في وقفات سريعة تحظى بالتغطية التليفزيونية الملائمة وأعادوا تحذيرنا من الوهابيين الذين استولوا على البلد.

أحيانا تكون السخرية مغرية. المسافة بين الفقرتين الماضيتين هي الفارق الذي أراه بين التعاطف الحقيقي والتنديد الميكانيكي ذاتي الاستجابة (يعمل خلال ساعة بدون شحن مع وجوب التنسيق الحزبي). ورغم توافر النوعين إلا أنه لم يكن كافيا للبعض، وقبل أن تسيء فهمي كما هو معتاد (عادتنا الوطنية)، هذا البعض ليس مسيحيا.

أولا دعونا نتجول في أحد أفرع الأوان المستطرقة. بعد أيام من حادث الأقصر الإرهابي تم تحميل اللواء حسن الألفي النتيجة ثم ارتدى البيجاما المنزلية المريحة. قارن هذا بحبيب العادلي الذي عرف منذ شهور أن هناك تهديدات حقيقية ضد الكنائس المصرية وتقريبا تجاهل المعلومات (جزء كبير من قواته كان مشغولا في تأمين عدة عشرات من الإسرائيلين في مولد أبي حصيرة)، ورغم أن سجل فشله أصبح أثقل من كل أسلافه، يبدو أن مبارك لديه المزيد من الصبر عليه طالما أنه هو شخصيا لم يتعرض لاعتداءات.

سأجعل موقفي واضحا تجاه العادلي: أنا أكرهه كما أكره كل رجال الصف الأول والثاني بالنظام (صديق لي يضيف الصف الثالث أيضا)، هؤلاء يدركون جيدا فساد مقصدهم ولا فائدة من الحوار معهم (لقد حولوا الحوار إلى رياضة صباحية بدون مغزى آخر غير نفسها). وكنت أراها فرصة نادرة للتخلص منه بعد دستة من التفجيرات في جنوب سيناء والقاهرة تتحمل وزارته ما بها من تقصير أمني.

في جنازة الضحايا كان غضب المسيحيين لأول مرة متوجها في الاتجاه الصحيح عندما هاجموا كل رموز النظام الذين حضروا الجنازة (ومنهم مفيد شهاب المبعوث الشخصي لمبارك)، لأول مرة كان الغضب الخام صحيح الاتجاه ضد من يمنعون بناء الكنائس، ويقيدون ترقي المسيحيين في الشرطة والجيش والوزارات (السلفيون يمكنهم الكلام كما يحلو لهم على الفضائيات لكن أحدهم ليس وزير الداخلية ولا القوى العاملة)، غضب لم يتلوث بعد بالوعود والاتفاقات التحتية وكان يمكن أن يؤدي إلى نتيجة ما أفضل من مسلسل الاحتواء التنديدي المرسوم مسبقا.

بالأمس شارك بعض الناشطين المسلمين في تظاهرة مسيحية بشبرا، وكان غرضهم واضحا لإشعار المتظاهرين أن المصلحة مشتركة، ثم أثناء التظاهرة قامت قوات الشرطة بانتقاء هؤلاء الناشطين من ضمن الجميع واعتقلتهم، لتوجه لهم تهمة الاعتداء على ضباط الشرطة (لا أعرف كيف يمكن لنشطاء الفيسبوك الاعتداء على ضباط الشرطة المدربين لسنوات على إجراءات الإهانة والتعذيب). لقد تعدى هؤلاء النشطاء الخط المرسوم، وهو خط يسمح بتظاهر بعض المسلمين أمام كنيسة القديسين هاتفين "الله أكبر"، بينما لا يسمح بانضمام مسلمين في تظاهرة تطالب بحقوق المسيحيين، لأن الأخيرة قد تنقلب إلى المطالبة بحقوق الجميع. تظاهرة مثل هذه كان يمكن أن تطيح بسفاح الداخلية، وليست هذه بنهاية سيئة لأسبوع دموي.

فيما يخص مصالح المسيحيين المكلومين، طالب رفعت السعيد بإصدار قانون بناء دور العبادة لكن شهاب كتمه ببراعة واتهمه بإثارة الجمهور (السعيد كان ينفذ دوره كما تسلمه في السيناريو القديم لكن لم يبلغه الآخرون أن هناك تعديلات يقتضيها الموقف)، تم الإفراج عن باقي المتهمين في أحداث العمرانية وكأن شيئا لم يحدث ولم أعرف حيثيات الإفراج (سيقول المسلمون أنها محاباة لكن قولهم سيكون من قلة الذوق بينما سيصمت أنصار الدولة المدنية الخيالية عن هذا الخرق القانوني)، لن يتغير شيء في باقي المطالب (ربما يُؤلف شهاب قانونا جديدا للأحوال الشخصية ويريح البعض)، والعادلي باق حتى الكارثة القادمة وما بعدها (الشعب في خدمة الشرطة).

كارثة مثل هذه كانت فرصة لكي تطعن خصمك وسط الزحام، وعوضا عن غرس أسناننا في لحم الطاغية، كان الأسبوع الماضي وقتا لتصفية الحسابات التاريخية، صباح الحادث وجهت فريدة الشوباشي نقدها إلى شيوخ الفضائيات على بث التطرف بين المواطنين البسطاء (على أساس أن هؤلاء البسطاء هم الذين يختارون لواءات الجيش والشرطة ويفصلون القوانين)، ورغم مسارعة جماعة الأخوان المحظورين (من حظيرة) بالتنديد الإجرائي، فإن معظم الكتابات حملتهم المسؤولية، وأصبح محمد سليم العوا هو المحفز الأول للإرهاب بمعركته الشهيرة مع الأنبا بيشوي، ومحمد البرادعي مخطئ لأنه لم يقطع رحلته للنوبة.

حتى الآن لم يتم الكشف عن منفذي الحادث، ولا أظن أن هذا سيحدث (هناك نقص كبير في المختلين عقليا الذي يجيدون تركيب القنابل)، مع احتمال أن تكون أطرافه خارجية تماما (وفي هذا راحة للمسلمين والعادلي الذي سيطلب زيادة في ميزانية الأمن المركزي لمواجهة القاعدة)، وفي أحد جروبات الفيسبوك تلميح بأن يكون نظام مبارك هو الذي نظم التفجير في هذا التوقيت الحرج انتخابيا، بحيث نتوحد جميعا على انتخاب مبارك حتى نهاية الزمان (منذ ساعات أقر مجلس الوزراء تعديلات ثالثة على الدستور بخصوص الانتخابات الرئاسية تتيح الاستمرار في المسرحية).

لا أريد أن أبدو عديم الإحساس، ولكن كانت هناك فرصة واحدة للتوحد ضد العدو المشترك الذي ينظم المسارات التحتية للتطرف ببراعة، وقد ضاعت في تصفية الحسابات، والآن سنصمت حدادا ونعطي الطاغية المزيد من الوقت، لكن السنة في بدايتها، وهي تشبه كثيرا 1951.