Pages

دليفري للبهوات

Friday, January 14, 2011

غ من غبريال

استمد أستاذ غبريال سطوته المرعبة علينا من حرف واحد في بداية اسمه، غ في غبريال، وهو ليس بحرفٍ بسيط.

--------------------------

كان سلاح المدرس يكشف الكثير عن شخصيته، العصى التقليدية كانت تخص أستاذ لا يخطط كثيرا للضرب، لكنه ينهمك فيه بسهولة، وتوفر له العصى الخشبية فرصة استهلاك جل طاقته في ضرب الطالب دون أن يشعر، وهو ما يصنع له حاجزا جسديا يمنعه من الانزلاق نحو الأذية الزائدة.

أما الخرزانة فهي تعتلي قمة الهرم العقابي، يحملها أستاذ يأخذ مهنته بشكل جدي، يستثمر جهده في صنع سلاح يؤلم ولا يؤذي، فيقضي ساعات في اختيار الخرزانة، وربما يكون أكثر إبداعا فينتظر عليها أيام أخرى وهي منقوعة في الزيت لكي تكتسب قساوة ومرونة في ذات الوقت، ثم يمنحها شخصيتها المتميزة بالشريط اللاصق الذي يلفه حولها، ويرتفع بها لمصاف القطع الفنية فيزينها بأكثر من لون، ويزيد من سماكة النهاية التي سيمسك بها لتصبح كأنها جزء مكمل لقبضته فتبدو للعيال مثل السيف الذي لا يسمح إلا لبطل واحد أن يمسك به، ويتجنبون الإمساك بها من ناحية القبضة رغم الإغراء الكبير بلعب دور الأستاذ مستخدمين خرزانته. آخر شيء هو إطلاق اسم أنثوي على الخرزانة يساعد في تثبيت سمعتها الحارقة.

يعامل الأستاذ خرزانته كأنها أحد أفراد عائلته، رغم أنه لا يعود بها للبيت أبدا، ويخصص مكانا سرية لإخفائها بغرفة التدريس، و ينهار إذا فقدها، وربما ينتقل إلى مدرسة أخرى.

السلاح الأخير كان الجِلدة، وهي جزء من سير حلقي مطاطي يتم قصه فيصبح مثل الحبل، ويتم تقصيره أو تقسيمه حسب الحاجة، الطلبة الأصغر يحتاجون عادة لجلدة أطول لأنهم يحاورون ويناورون لتفادي الضرب، والجلدة الطويلة تغري بفقدان الأعصاب، بينما القصيرة تحتاج سيطرة أكبر على الغضب. ويسهل حمل الجلدة لأي مكان ولا تحمل أي أهمية عاطفية لصحابها.

كان أستاذ غبريال يلف الجلدة داخل جريدة يضعها تحت إبطه دائما، ولا يفتح الجريدة إلا داخل الفصل.

لم يكن الأكثر عنفا بين الأساتذة، ولم يكن يهتم كثيرا بطابور الصباح الذي كان يتحول إلى حفل مسموح فيه لأي أستاذ بأن يُبرز ذكورته أمام المدرسات والعيال عبر استخدام حنجرته بإفراط والدوران بين الصفوف وافتراس أي عيل بدون إبداء الأسباب.

على العكس، كان أستاذ غبريال يقف أمام طابور فصله في هدوء، ويحمل وجهه ابتسامة ميكانيكة ولا يتدخل فيما يحدث حتى لو اخترق أستاذ آخر صفوف فصله خلال فورة نشاطه الذكوري، وهو اختراق كان يعده باقي الأساتذة تعديا على منطقة النفوذ، ولهذا كان فصلنا دائما عرضة للاختراق.

على عكس باقي أساتذة الرياضيات، كان أستاذ غبريال مهندما رغم أنه لا يغير البلوفر الذي يرتديه صيفا وشتاءً، كان وجهه حليقا بخلاف زملائه المحبطين. كانت الابتسامة الميكانيكية تختفي بمجرد دخوله الفصل، يفتح الجريدة ويُخرج الجلدة وكشكول التحضير ويبدأ في تناول مسائل الجبر والهندسة.

كانت سطوته المرعبة تسيطر على صف الدكك الأول الذي كان يتلقى أسئلته كلها ويجيبها، رغم أنه لم يستخدم الجلدة أبدا، وفي الصفوف الخلفية كان هناك قانون خفي للاحترام بينه وبين سكانها.. هو لا يسألهم وهم يتحولون إلى تماثيل بكماء في حضوره.

كنا في الصف الأول ننطق اسمه كأنه لفظ من لغة قديمة تستخدم كلمة واحدة للدلالة على الشيء بدون أن تحمل هذه الكلمة معنى أعم أو أكثر شمولا، كان غبريال يعني غبريال، كأنه هناك منذ بداية اللغة، أو قبلها، فلا يحتاج أن يُنسب لمعنى أو ظرف.

طوال حياتي لم أقابل إلا غبريال واحد، الاسم نفسه يحمل غرابة لا يمكن تجاهلها. عرفت لاحقا أنه مشتق من اسم "جبريل" كبير الملائكة بعد تأثره بالنطق العبري "جبرئيل" ثم انتقاله للاتينية "جبريال"، ثم عودته إلى العربية وتغيير الجيم المصرية إلى حرف غ كما يحب الشوام، وكما تعود سكان الخليج على أيديهم.

كنت أستغرب لأن الاسم لا يحتاج لاستبدال حرفه الأول، فالجيم من البداية معطشة، لكن رحلتها إلى الغرب هي التي أزالت التعطيش منها. نحن المصريون كعادتنا نمتلك مكانا إضافيا حميما لكل شيء يستجد أو يتطور، وكان يمكننا تقبل الاسم كما هو بوجود الجيم المصرية غير المُعطشة، لكن يبدو أن هناك من قرر أن يمر جبريال أولا على بوابة الشام ليصموه هناك بحرفهم البديل.

ربما كان والده يقصد الإشارة لكل تلك الرحلة الطويلة باستخدام الاسم على هذه الطريقة.

ولسبب لا أعرفه، كان أستاذ غبريال يكرهني، ولم يكن هذا بالشيء السهل بالنسبة لتلميذ جبان ومتملق مثلي.

جاء أستاذ غبريال كبديل لأستاذ رمسيس الذي تُوفي في منتصف العام، كانت لديه نتائج الاختبارات الشهرية لكي يُدرك خريطة الفصل الدراسية، كان من السهل إدراك أنني نجم الفصل في الحساب، وأنني أعاني كثيرا في الهندسة. قرر أن يغير قواعد اللعبة بإجراء اختبارات أسبوعية.

بدا كأنه فوجئ عندما حللت أول امتحان حساب بدون خطأ واحد، وأسرع بكثير من أقرب منافس، وفي الأسبوع التالي نقلني بجوار زميل آخر ليتأكد من أنني لا أغش، ثم ألقى بي في الخلف بجوار التماثيل البكماء. في كل مرة تكررت ذات النتيجة، وانتقاما منه كنت أتحداه بأن أنهي الاختبار أسرع ثم أسمح للتماثيل بالنقل مني مما قلب الخريطة أمامه تماما.

الأول جاء من الصف الخلفي والتماثيل ينجحون ببراعة، لكنه انتقم بمنعي من المشاركة في أوائل الطلبة.

أعتقد أنه لم يتوقف عن التحرش بي إلا عندما رسبت في اختبار الهندسة وحصلت على صفر نادر الحدوث حتى بالنسبة للتماثيل البكماء.

تحولت بعدها إلى طالب عادي ولم تعد تهمه درجاتي، وبعد فترة اختفت الاختبارات الأسبوعية.

في العام التالي فوجئت به يناديني وهو جالس على مقعد تحت شجرة بجوار غرفة المدرسين، لم أعد الآن في مجال تأثيره بعد أن تولانا أستاذ آخر كئيب لا أتذكر اسمه حتى. لا يزال اسم غبريال مرعبا، لكنه صار يرمز لشيء عتيق، ومع هذا كنت أرتعد بداخلي وأنا أتقدم نحوه.

- قول لي يا محمد.. 22 في 3 تساوي كام؟

- 66.

- طيب واحد ونصف في خمسة.

- سبعة ونص.

- طيب اجمعهم.

- 73 ونص.

- زائد عشرة في المية؟

- 80 و...... 85 من المية.

- زوّد عليهم 34.

- 114 و.....

- مش مهم الفكة، شيل منهم 2 إلا رُبع.

- تبقى 112 وربع.

- طيب.

أنهى أستاذ غبريال آخر محادثة بيننا بأن خفض رأسه وسرح بنظره في مكان ما بين ساقيه، ولحظتها تذكرت أن ابتسامته الميكانيكية كانت قد اختفت منذ وقت ما لا أدركه، وأن ملابسه لم تعد مكوية ومهندمة كما سبق، بل أن خيط صوفي انسل من نسيج البلوفر، وبدا أنه سيستمر في هذا.

2 comments:

Saleh.Mohamed said...

عبقريه..عبقريه..عبقريه

Unknown said...

انت هايل بقي مش فرحه المتوسطين وخلاص