Pages

دليفري للبهوات

Tuesday, December 30, 2014

الجثث لم تمنعنا من الاحتفال


تقول النشرة الجوية أن الحرارة في القاهرة ستهبط في نهاية الليلة إلى 9 درجات مئوية. البرودة تذكرني بليلة تحمل نفس التاريخ منذ منذ 9 سنوات (30 ديسمبر 2005)، عندما حاصرت قوات الشرطة مقر اعتصام لاجئين سودانيين في حديقة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، ولعدة ساعات أغرقتهم بالمياه في البرد القارس، قبل أن تقوم قوات الأمن المركزي باقتحام المخيم البدائي بآلاف من الجنود.
بحسب الحكومة المصرية، فإن التدافع والفوضى أثناء عملية الفض، أديا إلى وفاة 10 لاجئين، بينما قالت وكالة أنباء رويتر أن سيارات الإسعاف نقلت جثثا بأكثر من ضعف هذا الرقم، ثم تراجعت وزارة الداخلية المصرية وقالت أن الرقم كان 20 ضحية، وأعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن مقتل 25 سودانيا في تلك الليلة. كان من الصعب إحصاء القتلى والمصابين، الجثث كانت ملقاة على قارعة الشارع التجاري الأهم بالمنطقة، وآخرون ماتوا لعدم تلقي العلاج في المعتقلات. يقدر الناجون من الفض عدد القتلى بأكثر من هذا بكثير.
لا يصعب علينا الآن استعادة كيف جرت الأمور وقتها: فبعد تواطؤ بين المفوضية والحكومة المصرية، أخذت الأخيرة قرارا بالفض، وسبق هذا تمهيد إعلامي معتاد بأن اللاجئين يمارسون الجنس ويعاقرون الخمور في حديقة المسجد الشهير، ففي النهاية هم مجرد أفارقة بدائيين، كما أنهم أيضا مسيحيين، ليلة الفض كان المخيم محاصرا بأكثر من 6 آلاف جندي، وهو رقم يفوق عدد المعتصمين بضعفين أو ثلاثة، وعندما بدأ الاقتحام لم يسجل الشهود مقاومة تذكر من المعتصمين، كان هناك الكثير من النساء والأطفال وحتى حديثي الولادة، لم تكن الخطة هي تشتيت تلك المجموعة البائسة، بل كانت ضربهم بالهراوات ثم إلقاء القبض عليهم.
لم تحدث هذه المذبحة في أعماق السجون، ولا في الصحراء الموحشة، بل كانت في واحد من أهم شوارع المدينة، تحت أعين السكان الذين تابعوا الفض بفضول واستمتاع. في النهاية، لقد تخلصوا من هؤلاء الأفارقة المنحلين، ولم يكن للكنائس المصرية صوت يُذكر. بخلاف بعض المنظمات الحقوقية، لم يعترض أحد على ما جرى، الحقيقة أن مجتمع المدينة كان مستريحا للمجزرة، حتى مع إدراك حجم الكارثة.
يبدو المشهد مألوفا جدا.
==============
لم تمر شهور كثيرة بعد هذه الكارثة، ففي الساعات الأولى من يوم 2 فبراير 2006، غرقت العبارة "السلام 98" أمام سواحل الغردقة، وعلى متنها أكثر من 1300 راكب، معظمهم مصريين عائدين من رحلة كفاح أو حج في السعودية.
كانت العبارة مملوكة لعضو مجلس الشورى "ممدوح إسماعيل" الذي فر هاربا لخارج مصر قبل بدء التحقيق معه بتواطؤ واضح من السلطات، ورغم العيوب الفنية الواضحة بالعبارة، وتفاصيل الفساد المحيطة بها، فقد تم توصيف التهمة ضده كجنحة، ثم حصل على البراءة من محكمة قضائية مصرية في عام 2008، لكنه تلقى حكما بالسجن لسبع سنوات في الاسئناف، ليقضي 5 سنوات هاربا في الخارج، قبل أن يسقط عنه الحكم تلقائيا حسب القانون المصري.
وبحسب لجنة تقصي الحقائق التي جرى تشكيلها، لم تتدخل القوات البحرية المصرية أثناء غرق العبارة بدعوى أن الحادث كان خارج نطاق عملها، رغم أن المعاهدات الدولية تلزمها بهذا، ولاحقا شاركت قطع بحرية وجوية أجنبية في عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث، ليصل الأمر إلى وزير الدفاع "محمد حسين طنطاوي" الذي كتم القضية بقوله: القوات المسلحة لا تُسئل ولا يُحقق معها، القوات المسلحة فوق المساءلة وفوق التحقيق، هي تحمي الشرعية ولا يؤتى بسيرتها حتى في مجلس الشعب.
تتحدث أدبيات هذا الزمن عن انعدام حس الرئيس مبارك الذي تجاهل كارثة راح ضحيتها المئات مواطنيه، ووجد لديه طاقة لتشجيع المنتخب المصري لكرة القدم في ستاد القاهرة بمباراة نهائي كأس الأمم الإفريقية، حيث بلغت الفرحة بزوجته أن منحته قبلة تهنئة على الهواء مباشرة بعد فوز منتخبنا. كان هذا بعد الكارثة بأسبوع واحد، لكن الحقيقة أنه بعد ساعات قليلة من غرق العبارة، وبينما كانت الأمواج تتلاعب بجثث 1033 مواطنا مصريا وأسماك القرش تتلقى وليمة العمر، كان آلاف آخرين يحتشدون في نفس الملعب من أجل مؤازة الفريق في مباراة أقل أهمية، بينما ملايين آخرون يتابعون المباراة عبر التليفزيون، وبعدها بأربعة أيام كانت هناك مباراة أخرى، ونصر آخر، حتى المباراة الكبرى في نهاية الأسبوع.
1033 جثة لم تمنعنا من الاحتفال، ولماذا لا؟
==============
في نفس العام تصادم قطاران وكانت حصيلة القتلى 51 حسب أقل تصريح حكومي (الأرقام تصل إلى 80)، وفي العام التالي تصادم آخر راح ضحيته 58 مواطنا، ثم 30 آخرين في 2009.
تبدو الأرقام مفرحة مقارنة مع كارثة قطار الصعيد في 2002، والتي راح ضحيتها 350 مواطنا في أقل تقدير رسمي، حيث اندلع حريق بالقطار الذي استمر منطلقا لمسافة 9 كيلومترات، وحاول بعض ركابه القفز مخاطرين بحياتهم خارجه، بينما تفحم آخرون بداخله والتصقت جثثهم بنوافذه أثناء محاولة التقاط آخر أنفاسهم.
هل يدفع المصريون ثمن الفساد.. أم ثمن قبولهم به؟
==============
ولقد قامت الثورة في 25 يناير 2011، وخلال أيامها الأولى قُتل 1075 شخصا، معظمهم قُتل بأيدي رجال الشرطة وتحت سمع وبصر الآلاف، في الميادين المفتوحة وأمام أقسام الشرطة، لكن القضاء المصري استقر إلى تبرئة كل المتهمين، بداية من أمين شرطة قسم الزاوية الحمراء، وحتى مبارك شخصيا. لم يكن في موت هؤلاء أي مدعاة لاستهجان معظم المجتمع، ظل الكثيرون جدا يؤمنون بأحقية الدولة في قتل مواطنيها.
لاحقا وفي نفس العام، يستمر القتل في مواقع عديدة، لكن تتفرد مذبحة ماسبيرو بأنها كانت نسخة طبق الأصل من فض اعتصام اللاجئين السودانيين: بداية من التحريض الطائفي ضد مظاهرة للأقباط، ثم مدرعات الجيش تطلق النار عليهم وتفرمهم تحت عجلاتها، التليفزيون الرسمي يستدعي المواطنين الشرفاء لحماية قواتهم المسلحة وبعض مشايخ السلفية يلبون النداء.. لتكون النتيجة هي ملايين المواطنين المؤيدين للمذبحة.
أجرى العسكر تحقيقات شكلية أدت إلى تبرئة كل المشاركين بالمذبحة، وفي العام التالي استقبلت الكنيسة وفد المجلس العسكري بترحاب رغم اعتراض بعض الأقباط، ومؤخرا اعتبرها البابا "تواضروس" مجرد حادثة، وجدد ثقته في المؤسسة القضائية، ويحظى هذا بتأييد الكثير من شعب الكنيسة. بعض من ارتكبوا المذبحة هم الآن أبطال قوميين في نظر المصريين أياً كانت ديانتهم.
ثم سيدفع الإسلاميون ثمن تأييدهم السابق فيما بين يوليو وأغسطس 2014 بأكثر من ألف قتيل، بنفس آليات التمهيد للوحشية، مرة أخرى بتوافق مجتمعي نادر، بل مطالبات بتوسيع القتل والقمع، وقبلهم وبعدهم سيدفع الشباب الثائر نصيبهم من الدماء، بينما أصبحت الرواية الخيالية للدولة أكثر تماسكاً، مدعومة بأحكام قضائية وتقارير استخباراتية ودعم شعبي، وحتى بإلقاء التهمة على الضحايا أنفسهم، أو اتهام طرف ثالث تتغير هويته حسب متطلبات المذبحة ومزاج الجمهور.

Thursday, December 4, 2014

أمي!!.. التي قتلت المتظاهرين



في باب الذكريات الإذاعية القديمة، كان يوجد برنامج يُذاع صباح أيام جمعة بعنوان "من الجاني؟"؛ بموسيقى فخيمة لا تناسب أجواء تراخي يوم العطلة، وبموضوع يقدم جريمة غامضة يتم عرضها صوتياً كأنها قراءة لإحدى قصص "أجاثا كريستي"، لتنتهي الحلقة دائماً بسؤال عن مرتكب الجريمة؛ من الجاني؟ ثم الإعلان عن جوائز لمن يتمكن من حل لغز الجريمة، وهي جوائز لم تكن تخرج عن شرائط موسيقية من إنتاج "شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات".
كطفل غير بريء، لم أكن أنشغل كثيرا بتفصيلات الجريمة وحبكتها، كنت أنصت أكثر لأداء الممثلين ذوي الخلفيات المسرحية التي كانت تحتم عليهم كشف السر بطريقة ضمنية: فالممثل الذي يؤدي دور الجاني كان يضيف زخرفة معينة تجعلك تعرف إنه هو صاحب الجريمة.. كلمة ممطوطة النهاية، صوت رخيم في غير محله، أو حتى محاولة فاشلة لكي يبدو ضعيفا أو تافها.
لم أكن أبداً بحاجة للغرق في حبكة الحلقة لكي أعرف الجاني.
============

لغوياً، نستخدم صيغة السؤال من أجل الحصول على إجابات، ولكن مغارة اللغة الثرية تحمل استخدمات أخرى، مثل التهكم، الاستنكار.. وتعمد إخفاء الحقيقة أيضا.
بعد ساعات من إصدار الحكم بالبراءة على مبارك والعادلي ومعاونيه، كشف اثنان من الصحفيين عن وجود توجيه سيادي للصحافة بأن يكون موضوعها في اليوم التالي هو"مبارك براءة.. من فعلها إذن؟"، وبشكل شخصي، كشف صحفي ثالث عن نفس التوجيه لجريدته. قبل نهاية الليلة، صدرت جريدة "التحرير" بالعنوان المنتظر: براءة فرعون وهامان.. إذن دم شهداء الثورة في رقبة من؟

"أمي!!!".. هكذا أجاب أحد مستخدمي فيسبوك عن السؤال، مستخدماً إجابة كلاسيكية في العامية المصرية أمام أي سؤال عبثي نعرف إجابته، وأرفق هذا بصورة مدرعة تطارد المتظاهرين، ومن فوقها ضابط شرطة يُطلق سلاحه الناري عليهم، مع إضافة تعليق آخر: أمي كانت سايقة المدرعة ودهست المتظاهرين وضربتهم بالرصاص!

 
بالنسبة لهذا المستخدم، لم يكن السؤال يتحمل رداً غير هذا، لكن هذا لم يمنع صحف اليوم التالي من الصدور حاملة نفس العنوان.
يمكن استبعاد أن الصحف تقيم مسابقة على غرار البرنامج الإذاعي، كما أن الصحف تطرح السؤال بجدية من كان غائبا عن البلاد وعاد ليكتشف الحدث منذ بدايته، مما دفع "أحمد خير الدين" مذيع نشرة "ON TV" للإجابة عن السؤال: يراد لنا الآن أن نردد هذا السؤال الأبله الذي يقول “من القاتل؟”، وكأننا لم نعرفه ولم نره!!

الأمر بسيط؛ السؤال غرضه هو "ادعاء عدم المعرفة"، تمهيدا لـ"إعادة سرد حدث قتل المتظاهرين"، هذه المرة سيكون القتلة هم أفراد من حماس والإخوان، تسللوا من على الحدود حاملين أسلحتهم الخفية عبر مئات الكيلومترات، بدون لفت أنظار قوات الجيش والداخلية والمخابرات والمؤسسات السيادية التي لا تنتهي، ليندسوا بين المتظاهرين، في التحرير وباقي الميادين والمحافظات، حتى أنهم وصلوا إلى ميدان المطرية كنوع من التجويد.. ثم مارسوا القتل في المتظاهرين بالمئات، لدرجة أنهم لم يميزوا بين القتيل الإخواني وغيره، ثم تركوا المتظاهرين يتخيلون حكاية أن الشرطة هي من قتلت رفاقهم.
هذا، وقد ساعدتهم "أمي" في القتل، وكان يمكنها إخفاء الجريمة تماماً، لولا أنها تُوفت قبلها بأكثر من 3 سنوات.
============

يقولون إن الإعلام بارع في خلق الأساطير، وإن براعته تبدو كالسحر الذي يمكنه إيهامك بتصور ما، ثم العودة لمسح هذا التصور.. هل تتصور أن هذا ممكن؟
سأبدأ بنفسي وأراجع ما أعرفه: عصر يوم 28 يناير، كنت في الصف الرابع أو الخامس من هؤلاء الذين صلّوا العصر على كوبري قصر النيل، قبلها بدقائق كنت أقف في سلسلة بشرية لمنع أي أحد من الاعتداء على مجموعة جنود تُركوا وحدهم عند باب نادي القاهرة، وبعد الصلاة لم أصدق عيناي عندما شاهدت ضابط بأعلى مدرعة يُطلق قنابل الغاز من سلاحه في مستوى رؤوس المتظاهرين، وبعد دقائق سقطت الصفوف الأولى وشاهدت المتظاهرين يحملون المصابين.. ثم لم أشاهد شيئاً لأني أصبت بطلقات الخرطوش في وجهي، كل ما سمعته كان المزيد من الطلقات وصرخات الألم الخوف، وكان هناك من يصرخ بأن أحدهم مُصاب في وجهه، وأعتقد أنه كان يتحدث عني.
لقد زالت آثار الخرطوش من وجهي الآن، وتبدو الذكرى قديمة بعد أحداث أكثر دموية مررنا بها، لدرجة أني أفكر في التساؤل حول "من فعلها؟" كما تنصحنا الصحف.