Pages

دليفري للبهوات

Thursday, December 4, 2014

أمي!!.. التي قتلت المتظاهرين



في باب الذكريات الإذاعية القديمة، كان يوجد برنامج يُذاع صباح أيام جمعة بعنوان "من الجاني؟"؛ بموسيقى فخيمة لا تناسب أجواء تراخي يوم العطلة، وبموضوع يقدم جريمة غامضة يتم عرضها صوتياً كأنها قراءة لإحدى قصص "أجاثا كريستي"، لتنتهي الحلقة دائماً بسؤال عن مرتكب الجريمة؛ من الجاني؟ ثم الإعلان عن جوائز لمن يتمكن من حل لغز الجريمة، وهي جوائز لم تكن تخرج عن شرائط موسيقية من إنتاج "شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات".
كطفل غير بريء، لم أكن أنشغل كثيرا بتفصيلات الجريمة وحبكتها، كنت أنصت أكثر لأداء الممثلين ذوي الخلفيات المسرحية التي كانت تحتم عليهم كشف السر بطريقة ضمنية: فالممثل الذي يؤدي دور الجاني كان يضيف زخرفة معينة تجعلك تعرف إنه هو صاحب الجريمة.. كلمة ممطوطة النهاية، صوت رخيم في غير محله، أو حتى محاولة فاشلة لكي يبدو ضعيفا أو تافها.
لم أكن أبداً بحاجة للغرق في حبكة الحلقة لكي أعرف الجاني.
============

لغوياً، نستخدم صيغة السؤال من أجل الحصول على إجابات، ولكن مغارة اللغة الثرية تحمل استخدمات أخرى، مثل التهكم، الاستنكار.. وتعمد إخفاء الحقيقة أيضا.
بعد ساعات من إصدار الحكم بالبراءة على مبارك والعادلي ومعاونيه، كشف اثنان من الصحفيين عن وجود توجيه سيادي للصحافة بأن يكون موضوعها في اليوم التالي هو"مبارك براءة.. من فعلها إذن؟"، وبشكل شخصي، كشف صحفي ثالث عن نفس التوجيه لجريدته. قبل نهاية الليلة، صدرت جريدة "التحرير" بالعنوان المنتظر: براءة فرعون وهامان.. إذن دم شهداء الثورة في رقبة من؟

"أمي!!!".. هكذا أجاب أحد مستخدمي فيسبوك عن السؤال، مستخدماً إجابة كلاسيكية في العامية المصرية أمام أي سؤال عبثي نعرف إجابته، وأرفق هذا بصورة مدرعة تطارد المتظاهرين، ومن فوقها ضابط شرطة يُطلق سلاحه الناري عليهم، مع إضافة تعليق آخر: أمي كانت سايقة المدرعة ودهست المتظاهرين وضربتهم بالرصاص!

 
بالنسبة لهذا المستخدم، لم يكن السؤال يتحمل رداً غير هذا، لكن هذا لم يمنع صحف اليوم التالي من الصدور حاملة نفس العنوان.
يمكن استبعاد أن الصحف تقيم مسابقة على غرار البرنامج الإذاعي، كما أن الصحف تطرح السؤال بجدية من كان غائبا عن البلاد وعاد ليكتشف الحدث منذ بدايته، مما دفع "أحمد خير الدين" مذيع نشرة "ON TV" للإجابة عن السؤال: يراد لنا الآن أن نردد هذا السؤال الأبله الذي يقول “من القاتل؟”، وكأننا لم نعرفه ولم نره!!

الأمر بسيط؛ السؤال غرضه هو "ادعاء عدم المعرفة"، تمهيدا لـ"إعادة سرد حدث قتل المتظاهرين"، هذه المرة سيكون القتلة هم أفراد من حماس والإخوان، تسللوا من على الحدود حاملين أسلحتهم الخفية عبر مئات الكيلومترات، بدون لفت أنظار قوات الجيش والداخلية والمخابرات والمؤسسات السيادية التي لا تنتهي، ليندسوا بين المتظاهرين، في التحرير وباقي الميادين والمحافظات، حتى أنهم وصلوا إلى ميدان المطرية كنوع من التجويد.. ثم مارسوا القتل في المتظاهرين بالمئات، لدرجة أنهم لم يميزوا بين القتيل الإخواني وغيره، ثم تركوا المتظاهرين يتخيلون حكاية أن الشرطة هي من قتلت رفاقهم.
هذا، وقد ساعدتهم "أمي" في القتل، وكان يمكنها إخفاء الجريمة تماماً، لولا أنها تُوفت قبلها بأكثر من 3 سنوات.
============

يقولون إن الإعلام بارع في خلق الأساطير، وإن براعته تبدو كالسحر الذي يمكنه إيهامك بتصور ما، ثم العودة لمسح هذا التصور.. هل تتصور أن هذا ممكن؟
سأبدأ بنفسي وأراجع ما أعرفه: عصر يوم 28 يناير، كنت في الصف الرابع أو الخامس من هؤلاء الذين صلّوا العصر على كوبري قصر النيل، قبلها بدقائق كنت أقف في سلسلة بشرية لمنع أي أحد من الاعتداء على مجموعة جنود تُركوا وحدهم عند باب نادي القاهرة، وبعد الصلاة لم أصدق عيناي عندما شاهدت ضابط بأعلى مدرعة يُطلق قنابل الغاز من سلاحه في مستوى رؤوس المتظاهرين، وبعد دقائق سقطت الصفوف الأولى وشاهدت المتظاهرين يحملون المصابين.. ثم لم أشاهد شيئاً لأني أصبت بطلقات الخرطوش في وجهي، كل ما سمعته كان المزيد من الطلقات وصرخات الألم الخوف، وكان هناك من يصرخ بأن أحدهم مُصاب في وجهه، وأعتقد أنه كان يتحدث عني.
لقد زالت آثار الخرطوش من وجهي الآن، وتبدو الذكرى قديمة بعد أحداث أكثر دموية مررنا بها، لدرجة أني أفكر في التساؤل حول "من فعلها؟" كما تنصحنا الصحف.