Pages

دليفري للبهوات

Saturday, November 23, 2013

سنوات الكوّر الضائعة: عن الألم القومي الذي نحب استعادته



إنها إحدى ساعات الصباح المزدحمة بالقاهرة، تعلن المذيعة عن المواجهة المصيرية للمنتخب المصري التي ستؤهله لكأس العالم، إلا أنك، وبدون إشارة من صناع الفيلم، لا تحتاج لإدراك إلى أي مدى يبدو المشهد كله معتادا (المواجهة المصيرية وليس الزحام). تضيف المذيعة للديباجة المعتادة أن القرعة الإفريقية "وضعت" المنتخب في المواجهة، كأنه مصير لا فكاك منه، ولهذا صار علينا التحسب له في أكثر لحظات تفاؤلنا، وهو ما فعله المخرج "إياد صالح" بفيلمه الوثائقي القصير، حيث يبدأ الفيلم بصوت المذيعة كأنها تطرح سؤالا مرعبا، ثم تعود نفس المذيعة قبل النهاية لتعلن نفس الخبر، وكأن الفيلم نفسه يتحفظ في الحلم، أو هو يتجنب الحديث عنه تجنبا للحسد.


"سنوات الكوّر الضائعة لماذا لا تصل مصر إلى كأس العالم؟" هو الفيلم الوثائقي السادس للمخرج إياد صالح (بالإضافة إلى كتابة وإخراج الأفلام الروائية والبرامج)، معتمدا على تمويل صغير من خلال شركة "Handmade-Studios"، ومنطلقا من فكرة بسيطة وشعبية بشكل غير معتاد على الأفلام الوثائقية التي تهتم عادة بموضوعات جافة ليست الكرة من بينها، وهي عن ذكريات جيل الشباب الذي عاصر الفشل المتتالي للمنتخب المصري، حيث تحولت هذه الذكريات إلى وسيلة تعذيب مستمرة لهم.

"بعد 24 سنة من طيش رجلين لاعيبة مصر قدام مرمى الخصم، اتحول كاس العالم في عيون الجيل ده لضلع المربع اللي بيكمل بيه المستحيلات التلاتة".. يبدأ الفيلم مرحلته الحاسمة بهذه الجملة، ليلخص مراحل الإخفاق في 5 لقطات أساسية فارقة تمتلئ بالتفاصيل المرة والساخرة:

-        طوبة زيمبابوي ومجدي طلبة (1994): بعد الفوز على زيمبابوي في القاهرة، تم إلغاء نتيجة المباراة بسبب ألقاء الجمهور بالحجارة على مدرب الضيوف، وأعيدت المبارة في مدينة ليون الفرنسية، حيث أضاع مجدي طلبة هدفا جرح به الشعب المصري كما يقول "عمر طاهر" (كاتب يظهر كشاهد على الأحداث).

-        هدف وايا (1998): في مباراة مصيرية أخرى أمام ليبريا، التي خرجت لتوها من حرب أهلية، ولا يوجد بها إلا نجم واحد هو "جورج وايا" (والذي كان يتكفل بالفريق ماديا وترشح بعدها لرئاسة بلده)، ثم إحرازه هدفا في مرمى عصام الحضري أطاح بنا من التصفيات، وأجبر الحضري على حلاقة شاربه بعدها.

-        السعيد / عمارة (2002): إخفاق جديد، أمام المغرب هذه المرة، وأثناء تفوق طاغي للمنتخب المصري، حيث أضاع السعيد انفرادا محققا، ووقتها كان واحدا من أفضل لاعبي مصر، ثم في مباراة العودة يحرز مصطفى حاجي هدفا أسطوريا، ثم في مباراة أخرى يضيع محمد عمارة هدفا في مرمى الجزائر الخالي، ويقول أحمد شوقي (أحد الشباب المشاركين) أن هدفا كهذا لم تكن قطته المنزلية لتضيعه.

-         تارديللي (2006): يصف المشاركون أن هذه المرحلة كانت عبارة عن عملية نصب قام بها المدرب "ماركو تارديللي"، وانتهت بتصفيات مهينة أمام منتخبات الكاميرون وساحل العاج.. وبنين.

-        أم درمان (2010): الصعود إلى الهاوية، فبعد فترة شعرنا فيها بأننا أفضل منتخب إفريقي، وبعد فوز 4 مباريات على التوالي، وصل الأمر إلى مباراة حاسمة أمام الجزائر في أم درمان، انتهت بهدف صاعق.. للجزائر. لا حاجة للمزيد من التعليق.

تكوين الفيلم كلاسيكي رغم موضوعه غير المعتاد، فهو يعتمد على شهادات مجموعة من الشباب الذين شهدوا الانكسارات الكورية الدورية حتى صارت اعتيادية لديهم وتستحق السخرية، والتجديد هنا هو في إتاحة الفرصة للكلام بصيغة تبتعد عن رسميات الأفلام الوثائقية، مع تدخلات قليلة من مخرج الفيلم في دور الراوي، وبالطبع مع خلفيات متعددة من تسجيلات المباريات.

ينتهي الفيلم بتحفظ على آمال التأهل عن طريق غانا، فبعد استعراض 5 مراحل من الفشل (وآخرها كان قاسيا للغاية في الحقيقة)، يلعب الفيلم على الألم لا الأمل، من حيث كون هذا الألم جماعيا وصالح للتداول حاليا بعد نزع الدسامة منه.

إلا إن الفيلم ليس حزينا، على الإطلاق، هناك لقطات تبعث على الفخر وسط الهزيمة (خاصة خلال مباراة الجزائر)، وهناك انتقادات لطريقة تفكير المصريين والكرة نفسها، وهناك سخرية حارقة لدرجة أن أحد الشباب المشاركين يتكرر عدم درايته بالأمر على الإطلاق (هناك احتمال أن يكون يؤدي دورا مكتوبا)، والمشاركون أنفسهم يتحدثون بجدية عن رغبتهم في تعذيب لاعبي المنتخب على إضاعتهم لكل هذه الفرص، وعنوان الفيلم نفسه مقتبس عن عنوان برنامج "سنوات الفرص الضائعة" لـ"مصطفى الفقي"، وينتهي الفيلم بالشباب يعلنون "بتحفظ" عن أملهم في التأهل، وهي لقطة يكسر جديتها وهشاشتها عبارة ساخرة لأحدهم يطالب فيها الفريق "عبد الفتاح السيسي" بأن يتخذ كل ما يلزم من أجل ضمان تأهلنا.

ويظل الفيلم دليلا على أن كأس العالم صار "ألما قوميا محببا"، فقد تم إطلاقه قبل يومين فقط من مباراة مصر وغانا التي انتهت بنتيجة كارثية (وننتظر معجزة سماوية حقيقية لكي نعوضها في لقاء الإياب بالقاهرة في مساء 19 نوفمبر)، وعكس ما كان يتوقع صناع الفيلم، فقد أظهرت نتائج عرضه على يوتيوب اهتماما متزايدا بالموضوع رغم الهزيمة الثقيلة، حيث جذب الفيديو 170 مشاهدة على يوتيوب في اليومين السابقين للمباراة، ثم قفز الرقم إلى 250 ألف مشاهدة في الأيام الحزينة التالية (حسنا، لم تكن حزينة جدا وانتقلنا كلنا سريعا إلى حالة السخرية والأمل العبثي)، واستمر الاهتمام بمشاهدة الفيلم في الشهر الفاصل بين المبارتين، ليصل الآن، قبل ليلة من المباراة الثانية، إلى 510 ألف مشاهدة.

إنتاجيا، يعني هذا أن أرض يوتيوب على وشك أن تثمر مالا لصناع الأفلام الصغيرة أيا كانت نوعيتها (بغض النظر عن النجاح الاستثنائي للمذيع باسم يوسف الذي نمى نجاحه بمساعدة شركات إعلامية ضخمة)، وأن كرة القدم، والنستالجيا الحزينة المؤلمة، يصلحان لصناعة أفلام ناجحة خارج سيطرة مؤسسات السينما والإعلام التقليدية.

 - نُشر المقال في "بوابة الشروق" بتاريخ 18 نوفمبر 2013 بعنوان: شاهد فيلم «سنوات الكوّر الضائعة».. الساحرة التي تعذب المصريين كل أربع سنوات

Wednesday, October 2, 2013

مقدمة في نسيان مذبحة ماسبيرو



في مساء الأحد 9 أكتوبر 2011، في ذكرى تحل بعد أسبوع من الآن، وقعت مذبحة ماسبيرو التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 24 متظاهرا.. معظمهم من الأقباط.
في هذا اليوم كنت أقوم بعملي كمحرر في قناة التحرير ببرنامج "في الميدان" الذي يقدمه الأستاذ إبراهيم عيسى، ومن ضمن واجباتي متابعة المراسلين العاملين على الأرض، ومنهم هدير صبري التي صاحبت مسيرة ضخمة للأقباط خرجت من شبرا.
كان يوما عاديا بمقاييس تلك الأيام: كنيسة احترقت وغضب الأقباط لحرقها فقرروا الاعتصام أمام مبنى ماسبيرو، وفي يوم 4 أكتوبر قامت قوات الأمن المركزي ومن بعدها الشرطة العسكرية بفض اعتصامهم بعنف، ولهذا قرر الأقباط الخروج بمسيرة ضخمة للاحتجاج، وتعرضت مسيرتهم لاعتداءات عند كوبري السبتية، مواطنون شرفاء غالبا (رغم أن المصطلح لم يكن تبلور وقتها). لا خبر جديد، يوم عادي من تلك الأيام.
كان زملائي في البرنامج قد بدأوا في الوصول عندما وصلت معهم الأخبار: الجيش يطلق النار على المتظاهرين ويدهسهم بالمدرعات.
أن يطلق الجيش نيرانه على المتظاهرين، كان هذا حدثا، لكن لم يكن غريبا، الغريب هو كون الضحية من الأقباط، وهم كانوا معروفين بعدم ميلهم للعنف، سجلهم نظيف في هذا الشأن.
لهذا كنت متشككا، واتصلت بهدير لأسألها عن الأحداث، وروت الأحداث بمنظور لا يختلف كثيرا عما نعرفه حاليا بمذبحة ماسبيرو، لكني كنت مصرا أنا أسألها في كل تفصيلة "شفتِ بعينك؟ دم دم؟ مدرعات الجيش؟".. وكان تأكيدها هو الإجابة. قضيت الوقت التالي في تجميع فيديوهات من على الإنترنت وتجهيز مواد من شرائط الفيديو التي أرسلتها هدير.
قبل البرنامج بأقل من ساعة، جاء الأستاذ إبراهيم عيسى إلى غرفة التحرير. لم يكن معتادا أن يفعل هذا، فقد كان معتادا أن يذهب إلى غرفته ومنها مباشرة إلى البلاتوه، لم يخرج عن عادته تلك إلا في الحلقة الأولى، وبهذا اليوم.. فقط.
كان واضحا علينا الارتباك، أنا شخصيا كنت غاضبا بشكل يمنعني من التركيز في كل شيء، لهذا  اقتنعت وقتها بملاحظته عن الأحداث: أنه يستحيل أن يقوم الجيش بهذه المذبحة لأن تسليحه أقوى وأغشم من هذا، وبحسبة بسيطة، إذا فتح الجيش نيرانه على المتظاهرين، لن يتوقف رقم الضحايا عند دستة كما بلغنا وقتها.
كنت أريد أن أعرض عليه الفيديوهات التي جمعتها فذهبنا سويا لغرفة المونتاج، وبصراحة لا أتذكر ملاحظاته عن الفيديوهات، لكن أتذكر أنه تحدث معي عن أن هذا ليس أسلوب الجيش أو الداخلية، والأخيرة لو أرادات منع المسيرة لكانت ضيقت عليها وأرهقتها بالهجمات الجانبية. قلت لنفسي أنه تفكير استراتيجي صحيح، لكني اندهشت من درايته به.. لم نكن وقتها قد تمرسنا جدا على علوم الكر والفر، كما أنه يفكر من زاوية الشرطة لا المتظاهرين.
قبل البث على للهواء بدقائق، أبلغنا في غرفة التحكم أن نتصل بهدير: عليها أن تكون هادئة في مداخلتها، بدون تأثر أو زيادات عاطفية. كان الأمر حاسما، مع مسحة تهديد.
عملي في غرفة التحكم به دستة واجبات على الأقل، لهذا لا أتابع الحلقة غالبا إلا في نهايتها عندما يهدأ الإيقاع (أتفرج عليها معكم الآن كأنها المرة الأولى)، ولهذا لا أتذكر الآن من الحلقة إلا ضيوفها.. كانت هناك منى مينا التي كانت مكتومة، طبيعتها في الأصل هادئة ولكنها كانت في هذا اليوم مكتومة كمدا (وربما كانت تلك الليلة الأخيرة التي تظهر فيها بشعر غير أشيب)، ومعها جاء كمال أبو عيطة وآخرون لا أتذكرهم. استغربت من وجود كمال في هذا اليوم وحديثه عن النشاط النقابي.. لكني لم أستغرب من إصراره على أن يكون كلامه مطمئنا للمشاهدين، كرر أكثر من مرة أن الأمر لن يوقفنا وسنتجاوزه وسنكون أفضل، لكنه كان يبدو وكأنه يريد أن يتفادى الكلام عن الحادث.
لم أستغرب من كلامه لأني كنت أحتاجه، كنت أحتاج لمن يطمئني.


======================================

والباقي تعرفونه: شريط تليفزيون ماسبيرو يؤكد مصرع اثنين من جنود الشرطة العسكرية بأيدي الأقباط. مذيعة الأخبار رشا مجدي وهي تطالب المواطنون بالنزول من بيوتهم لحماية الجيش. أهالي بولاق أبو العلا تطوعوا لخدمة السلطة كعادتهم. ملتحون يتقدمون الدبابات في ميدان التحرير وعبد المنعم رياض ويهتفون ضد القتلة من الأقباط. مدرعات مرتبكة. مظاهرات للقصاص ثم محاكمات صورية لم تسفر عن شيء.
وما نعرفه ولا نتحدث عنه: بخلاف الثوار المحترفين، معظم الناس كانوا مؤيدين للجيش، قابلت سيدة مسنة تترحم على أحد الجنديين المقتولين ولم تنتبه أصلا للقتلى الأقباط ولا كونهم أضعف وعُزل، رجل عجوز آخر كان ينظر للمدرعات وهي تدفع أجسادهم ولا يرى إلا أنهم يلقون بأجسادهم أمامها، هؤلاء كانوا من أقاربي، متعلمين ومستقيمين ورحماء.. إلا فيما يخص الدولة.
وما تعرفونه وتتجاهلونه: أن الأستاذ، إبراهيم عيسى، ظهر منذ أيام وهو يقول أن قتلى رابعة لا يزيد عددهم عن 300، وهو رقم قليل، أما كمال أبو عيطة فقد أصبح وزيرا للقوى العاملة، وكانت أهم إنجازاته هي التصالح مع اتحاد نقابات عمال مصر، وهو الاتحاد الذي قضى حياته محاولا الاستقلال عنه، واليوم فقط قامت قوات الشرطة بفض اعتصام للعمال من أمام وزارته.
وما عرفته وأرغب أن أنساه: أن الأقباط، على الأقل من أعرفهم وتكلمت معهم مؤخرا، قرروا نسيان تلك الليلة.
وما أعرفه ولا أنساه: مشهد لمدرعة تعتلي تلا أنا في أسفله، مقدمة المدرعة تعلو وتعلو وأنا مستسلم، صار هبوطها عليّ أمر واقع لا محالة، وأفكر رغم رعبي في مقدار الألم بعد أن يفرم جنزيرها لحمي وعظمي. لقد توقف هذا الكابوس عن مهاجمتي، أو لم يتوقف، لا أعرف، فصورة المدرعة المجنونة واللحم المفري لا تفارقني.
يسمونها أحداث ماسبيرو، هي عندي مذبحة.. ولازالت.



Tuesday, August 13, 2013

سيب الجمهور هو اللي يقرر.. شاغل دماغك ليه لما أنت مش قد الكلام؟



بعد الثورة بكام أسبوع، زميلة صحفية بعتت لي على الشات تطلب بكل جدية المشاركة في استفتاء فني موضوعه "مين هو مطرب الثورة؟"
وواضح إنها كانت معممة صيغة السؤال على ناس كتير، عرفت ده لإن مقدمة السؤال مقصود منها إنه يكون سهل الهضم، يعني كتبت مقدمة عن إن عبد الحليم كان مطرب ثورة يوليو وكده، كمان كانت عاملة حسابها إنه مايكونش عندي إجابات فحطت خيارات ممكن تساعدني، زي الفنان الصاعد حمادة هلال وآخرين مش فاكرهم لإنهم ماكنوش بنفس درجة الكارثية
أنا رديت عليها رد ناشف شوية عقابا، مش ليها، ولكن للنوع ده من الصحفيين، كنت باشتم فيها كل الزملاء المثقفين اللي أجابوا عن سؤالها عشان في النهاية ينزل بصيغة تحقيق في صفحة فنية تتصدرها صورة ديكوبيه ساخنة لفنانة بدينة من بتوعنا
بعد سنتين تقريبا، من كام شهر كده، وفي عز صعود نجم الفلول، شيرت بوست لواحدة كانت كاتبة إن ثورة يناير ماقدمتش أي جديد على المستوى الفني. البنت الفلولية كانت مسألتها عبارة عن انتقام من ثورة يناير اللي كانت بتسميها مجيدة (دي حاجة معفنة ماعرفتش أعملها دلوقتي، يعني حاولت أكتب "ثورة 30 يونيو المجيدة" كنوع من التريقة، وماقدرتش لإنها فيها احتقار لحراك شاركت فيه الجماهير حتى لو كان مخطط ليه من أجهزة أمنية، وحتى لو رسي على الكائنات المترممة اللي شملتها الوزارة وحركة المحافظين)
وقتها كتبت تعليقي على الشير إن الثورة فعلا ماقدمتش جديد في الفن يتعلق بيها بشكل مباشر، طبعا كان فيه استغلال من كام مغني زي حمادة هلال وعلي الحجار، وكانت فيه أغاني حماسية بتعبر عن مشاعر الحالة وقتها لكنها مش ثورة موسيقية مثلا، طبعا مش ممكن نعتبر أفلام صيف 2011 من نوعية صرخة نملة إنها ليها علاقة بالثورة، ولا فيلم 18 يوم اللي ماتعرضش تجاريا لحد دلوقتي وكان محاولة للتطهر من شريف عرفة وشوية أرزقية زيه، كمان حاول يسري نصر الله إنه يسفسط زي عادته في فيلم بعد الموقعة وأخد جزائه العادل في مهرجان كان لما الناس كانت هتعمل أصوات إسكندراني من كتر انفقاعهم وبعدها أخد جايزة في مهرجان تعبان يناسب مستوى الفيلم
يعني تلخيصا مافيش فن خرج يعبر عن الثورة أو ياخد لقب ثوري.. جزء من المسألة تتعلق بالزمن وإننا لازم نهضم الحدث ويبقى عندنا حاجة تبعد عن المشاعر السطحية وحسابات مع/ضد، كمان المنتجين الفنانيين بتوعنا راحوا يستثمروا فلوسهم في العقارات والمسلسلات والبرامج ويصوتوا من انعدام الحرية والفاشية الإخوانية
بس أنا شايف إن الثورة مش بتعمل فن، هي ممكن توفر ظروف مواتية لظهور أنواع من الفن ماكنش يبقى لها وجود بسبب المزاج العام التجاري وفراغ الفضاء الفني من قضايا تخص الجمهور.. من ضمن ده فنون التكنوشعبي
=============================
قبل الثورة بأسبوعين تلاتة، كانت راكب ميكروباص مع واحد مثقفتيك بعد ندوة مأساوية مارس فيها شوية مثقفين طقوس الولولة على أديب شاب عشان يضمنوا إنه يبقى مستقر على نفس القاع زيهم. في الميكروباص كان السواق مشغل واحدة من أغاني المهرجانات، والمثقف انزعج كما هو متوقع، والحقيقة أنا انزعجت شوية عشان الصوت كان عالي، لكني رديت عليه إن ده نوع فني جديد في طور النمو، مقاومته مش هتنهيه بدري ولا هتحسنه، والأفضل إننا نسيبه يستكمل قدره.. بس وقامت الثورة
ارجع كده لأيام الميدان، لما كتير مننا فاجئهم منظر الباعة الجائلين والمشردين والعيال اللي واخدين 35 علامة جدارة على وشوشهم، الثورة جت وفتحت كرش العاصمة المعفنة فخرجوا للنور يمارسوا حياتهم ويقرفوا ولاد الناس، ومع الوقت يبقى الميدان بتاعهم وأنت اللي يبقى لك مواعيد حضور وانصراف.. هم دول بتوع المهرجانات
المهرجانات زي ناسها، كانت محتاجة صك قبول برجوازي، في حقيقته هو عديم الأهمية، لكنه ضروري عشان يشيل غلالة التجاهل عن الفن ده ويخفف من إقصائه.. ده حصل في إعلان موبينيل بتاع "عشان دايما نفقع في بعض"، وبعدها بقى التكنوشعبي هوس المزز في مارينا، ورقصاته الارتجالية بقت مهارة ضرورية للشباب المعاصر
وبعدها حصل الانفجار الكبير في مواضيع الأغاني بمفردات من الحياة اليومية لا تدعي أي عمق ومش بتمثل الشجن الشعبي المعتاد، موضوعات عن خيانة الصاحب واللعب في الشوارع والبنات المايصة والمخدرات واليأس والغباوة.. التطور الأهم هو زيادة دمج الفن ده مع الراب المصري، بإيقاعاته وتركيز أفكاره وسرعتها وعفويتها
كده نقدر نطمن إنه بعد كام سنة هيكون عندنا مش بس موجة فنية جديدة، كمان ممكن تتحول إلى لون جديد أصيل نشأ في ظروف محلية فريدة. بس إيه علاقة الثورة بيه؟ ده اللي مش هتقدر تشوفه الأستاذة الفلولية، إنه لولا الثورة كانت المهرجانات فضلت أسيرة حواري المطرية والميكروباصات بدون تفاعل مع ألوان تانية تطورها.. أي محاولة لتحديثها كان هيتكفل بيها حلمي بكر والمتنطعين فنيا عشان يدفنوها ويزايدوا على دماغ أهالينا بالفن أصيل العفونة بتاعهم.. وكله أكل عيش
=============================
افتكرت ده كله لما شفت الفيديو المرفق، شباب على كوبري قصر النيل بيقلدوا رقص محمد رمضان بالمطواة، والمحررين بتوع اليوم السابع (كشباب نفسه يرتقي داخل نفس الطبقة البرجوازية المعفنة وفي وسط صحفي معظمه جاهل فنيا ومتعصب لنفسه فقط) ماشفوش غير لقطة المطواة وكوبري قصر النيل، كمفارقة بين العشوائية والعنف وبين انهيار سلطة الدولة (أنا شخصيا كنت مهتم بدلالة حركات الشباب والمطواة دي بقت إكسسوار لكتير من الناس اللي مضطرين يروحو كارفور وسيتي ستارز كل شهر)
جزء من كلمات الأغنية: سيب الجمهور هو اللي يقرر.. شاغل دماغك ليه لما أنت مش قد الكلام؟
=============================
ده نفس اللي فاجئ بعضنا في ميدان التحرير صباح 29 يناير، لما الواغش خلص على أقسام الشرطة وجم يشاركوا في مهرجان الثورة. نفس الواغش ده بسهولة تم اعتبارهم جهلة ومرتشين في الانتخابات، وبعدها بقم أداة سامية للقضاء على الإخوان في 30 يونيو.. واخد بالك من تأرجح الخطاب البرجوازي تجاههم، وإن نفس الطريقة حصلت مع الفنون بتاعتهم؟
وطبعا أنا مضطر أكمل في تداعيات الموضوع بحلقة محمد رمضان في برنامج  يوسف الحسيني، يعني الأخير كان عامل برنامجه منصة لنشر العنصرية والأساطير وكان بيمارس السب العلني لفئات كاملة من البشر بكل حرية، لكن اللي بيعمله محمد رمضان والسبكية هو تدمير للمجتمع وأخلاقه.. يا حلاااااوة
=============================
وفي النطاق الأعم، في الوسط الثقافي الفني، تكتشف إن موضوع حرية التعبير هو مسألة فئوية لأهل الوسط بس، يعني المجتمع يسيبني أعمل اللي أنا عايزه بدون أي ضوابط في العلاقة لما الإبداع يخرج للمجال العام، ونسبيا ده حق صحيح، لكنه في الحقيقة شخصي جدا لأصحابه، ولا يتعلق خالص بحقوق المبدعين الشعبيين اللي فيه مؤسسات كاملة قائمة على إقصائهم برعاية حظيرة الثقافة اللي المثقفين كانوا هيموتوا نفسهم على وزارتها، دول فهموا لوهلة إن الفن الحقيقي مكانه الشارع، فشفنا لقطة فريدة لباليه زوربا في الشارع، وبعدها رجع الفن مسألة نخبوية ممكن يبقى لها استخدام شعبي فقط لما تبقى بتجيب فلوس
=============================
ماحدش بيعمل ثورة، لا في الميدان ولا في الفن، هي بتيجي لوحدها كنتيجة لأوضاع متنيلة قبلها

Friday, February 15, 2013

خرتيت غافل، قنافذ شائكة


ولقد غرقت السفينة بأهلها ولم يبقى منها إلا قارب نجاة واحد لجأ إليه أسد عجوز، خرتيت إفريقي، عصابة من الضباع وعائلة من القنافذ الصغيرة.
أما الأسد، فكان أكثرهم قلقا، وإن كان أقلهم إظهارا لهذا، وكان يتوقع أن تكون الأيام المقبلة انتظار وصبر حتى تظهر أي أرض، وإذا ما عضه الجوع فإنه يعرف جيدا ما عليه فعله. اتخذ من مقدمة القارب مكانا خاصا له في انتظار المجهول.
وكذلك حال الخرتيت، وإن كان قلقه أعمق لأن لا شيء من كائنات القارب تسد جوعه، مع احتقاره العميق لهم جميعا، وإضاف إلى الصبر خصلة الصمت الغامض. لكنه كان يشعر بالراحة في وجود الأسد الصبور صاحب التاريخ الوحشي العريق.
وانزوت الضباع في أركان القارب الصغير، جائعة وخائفة، لكنها تعرف أن لا فرصة أمامها أمام الكائنين الكبيرين، لهذا كانت عيونها السوداء الغائمة تفترش تحت أقدام الأسد، بانتظار إشارة سماح فيكونوا خدما له، أو جوع فيدفعوا أضعفهم كفريسة سهلة.
وحدها القنافذ هي التي انتشرت في القارب، مثيرة المرح والفوضى.. والعجب من قدرتها على التناسل في مثل هذه الظروف.
وعندما اشتد القلق والغباء بالخرتيت، ظن أن المكان الأكثر أمنا هو مقدمة القارب بجوار الأسد الصامت الذي سمح له بمجاورته طالما سيضيف إلى هيبته الوهمية، لكن وجود الاثنين في المقدمة أمال القارب حتى كاد يغرق، وبدأت المياه في التسلل إليه لتشعل مخاوف جديدة لدى الخرتيت، فاستدار موجها قرنه الوحيد إلى أسده الحبيب، بينما بدأ الأسد في الإعلان عن مخالبه وأنيابه.
وفي القارب ثارت القنافذ ونصبت أشواكها الحامية، وتدافعت نحو من ظنته الأكثر خطرا عليها؛ الأسد الذي أطاح بعدد منها في الماء بضربة واحدة، فلم يزد هذا أقاربها إلا ثورة وأشواكا انغرست في جسده.
وخلال معركته الصغيرة، احتكت بسمعه زمجرة الضباع الجائعة، وكأنها ضحكات عصبية مجنونة، لتحفر الزمجرة في أمعائه آلام الجوع وانتظار اللاشيء. رغم هذا، سيطرت عليه فكرة أنه ليست الأسود التي تتدني إلى أرخص لحوم الغابة، فلن يُقال أبدا أن الأسد رطب لسانه بدماء القنافذ، رغم أنه كان مستمرا في قتل المزيد منها برميها في الماء، وهو ما كان يورثه المزيد من الندم والتردد.
تلك لحظة أدركها الخرتيت، وما هي إلا دفعة بسيطة من قرنه الوحيد، لمسة هي أو أقل، ليسقط الأسد خارج القارب وتحمله الأمواج إلى الماضي والنسيان. أمام الأنظار الملتاعة للضباع النادمة على تلك اللحوم التي ضاعت في الهباء.
ووسط هذه الأحداث، لم تلحظ القنافذ تناقص أعداداها بأكثر مما قتل الأسد، كانت هناك دماء قنفذية تلطخ القارب.. وكانت الضباع راضية بشكل مريب.
لكن لا يزال القارب مائلا. فالخرتيت فرح بما كان الأسد العجوز يحتله، وتمسك بالمقدمة التي ظلت تسرب الماء للقارب، وإن كان بشكل أقل.
شيئا فشيئا، وسّعت الضباع حوزتها، بينما زاد قلق وارتباك القنافذ ورفعت أشواكها باستمرار. عين على الضباع التي تبتسم بغموض، وعين على الخرتيت الذي يصمت، هو أيضا بغموض.
قال الخرتيت لنفسه، أنه ليس راغبا فيما لدى القنافذ والضباع، وجلده سميك لا تخترقه الأشواك ولا الأنياب الصغيرة. نام في مكانه مطمئنا إلى امتلاكه المقدمة العزيزة، وعاد الماء يتسلل من تحت أقدامه الثقيلة أكثر حتى غطى معظم جسده، لكن جلده السميك لم يتيح له فرصة الشعور.
ولم يشعر أيضا بمحاولات القنافذ اليائسة لدفعه خارج القارب. القنافذ التي شعرت لوهلة بالظفر عندما تعاونت معها الضباع في الهجوم على الخرتيت النائم، وكان هذا إلى حين.
الفشل في التخلص من الخرتيت الثقيل أثار القنافذ التي تقافزت في كل مكان، تدمي بعضها بأشواكها هذه المرة، وانتشرت الضباع أكثر حتى صارت تحاصرها، لكن القنافذ انشغلت بالتخبط في أشواكها وجروحها الصديقة.
ومن بعيد، كان القارب يبدو غارقا لا محالة: الماء يغطي الخرتيت الغافل حتى أنفه، وتتسلل من أخشابه دماء القنافذ الصغيرة، مع ضجة تخبطها وغضبها، ولا ينافس هذا إلا ضحكات الضباع.