Pages

دليفري للبهوات

Tuesday, December 30, 2014

الجثث لم تمنعنا من الاحتفال


تقول النشرة الجوية أن الحرارة في القاهرة ستهبط في نهاية الليلة إلى 9 درجات مئوية. البرودة تذكرني بليلة تحمل نفس التاريخ منذ منذ 9 سنوات (30 ديسمبر 2005)، عندما حاصرت قوات الشرطة مقر اعتصام لاجئين سودانيين في حديقة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، ولعدة ساعات أغرقتهم بالمياه في البرد القارس، قبل أن تقوم قوات الأمن المركزي باقتحام المخيم البدائي بآلاف من الجنود.
بحسب الحكومة المصرية، فإن التدافع والفوضى أثناء عملية الفض، أديا إلى وفاة 10 لاجئين، بينما قالت وكالة أنباء رويتر أن سيارات الإسعاف نقلت جثثا بأكثر من ضعف هذا الرقم، ثم تراجعت وزارة الداخلية المصرية وقالت أن الرقم كان 20 ضحية، وأعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن مقتل 25 سودانيا في تلك الليلة. كان من الصعب إحصاء القتلى والمصابين، الجثث كانت ملقاة على قارعة الشارع التجاري الأهم بالمنطقة، وآخرون ماتوا لعدم تلقي العلاج في المعتقلات. يقدر الناجون من الفض عدد القتلى بأكثر من هذا بكثير.
لا يصعب علينا الآن استعادة كيف جرت الأمور وقتها: فبعد تواطؤ بين المفوضية والحكومة المصرية، أخذت الأخيرة قرارا بالفض، وسبق هذا تمهيد إعلامي معتاد بأن اللاجئين يمارسون الجنس ويعاقرون الخمور في حديقة المسجد الشهير، ففي النهاية هم مجرد أفارقة بدائيين، كما أنهم أيضا مسيحيين، ليلة الفض كان المخيم محاصرا بأكثر من 6 آلاف جندي، وهو رقم يفوق عدد المعتصمين بضعفين أو ثلاثة، وعندما بدأ الاقتحام لم يسجل الشهود مقاومة تذكر من المعتصمين، كان هناك الكثير من النساء والأطفال وحتى حديثي الولادة، لم تكن الخطة هي تشتيت تلك المجموعة البائسة، بل كانت ضربهم بالهراوات ثم إلقاء القبض عليهم.
لم تحدث هذه المذبحة في أعماق السجون، ولا في الصحراء الموحشة، بل كانت في واحد من أهم شوارع المدينة، تحت أعين السكان الذين تابعوا الفض بفضول واستمتاع. في النهاية، لقد تخلصوا من هؤلاء الأفارقة المنحلين، ولم يكن للكنائس المصرية صوت يُذكر. بخلاف بعض المنظمات الحقوقية، لم يعترض أحد على ما جرى، الحقيقة أن مجتمع المدينة كان مستريحا للمجزرة، حتى مع إدراك حجم الكارثة.
يبدو المشهد مألوفا جدا.
==============
لم تمر شهور كثيرة بعد هذه الكارثة، ففي الساعات الأولى من يوم 2 فبراير 2006، غرقت العبارة "السلام 98" أمام سواحل الغردقة، وعلى متنها أكثر من 1300 راكب، معظمهم مصريين عائدين من رحلة كفاح أو حج في السعودية.
كانت العبارة مملوكة لعضو مجلس الشورى "ممدوح إسماعيل" الذي فر هاربا لخارج مصر قبل بدء التحقيق معه بتواطؤ واضح من السلطات، ورغم العيوب الفنية الواضحة بالعبارة، وتفاصيل الفساد المحيطة بها، فقد تم توصيف التهمة ضده كجنحة، ثم حصل على البراءة من محكمة قضائية مصرية في عام 2008، لكنه تلقى حكما بالسجن لسبع سنوات في الاسئناف، ليقضي 5 سنوات هاربا في الخارج، قبل أن يسقط عنه الحكم تلقائيا حسب القانون المصري.
وبحسب لجنة تقصي الحقائق التي جرى تشكيلها، لم تتدخل القوات البحرية المصرية أثناء غرق العبارة بدعوى أن الحادث كان خارج نطاق عملها، رغم أن المعاهدات الدولية تلزمها بهذا، ولاحقا شاركت قطع بحرية وجوية أجنبية في عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث، ليصل الأمر إلى وزير الدفاع "محمد حسين طنطاوي" الذي كتم القضية بقوله: القوات المسلحة لا تُسئل ولا يُحقق معها، القوات المسلحة فوق المساءلة وفوق التحقيق، هي تحمي الشرعية ولا يؤتى بسيرتها حتى في مجلس الشعب.
تتحدث أدبيات هذا الزمن عن انعدام حس الرئيس مبارك الذي تجاهل كارثة راح ضحيتها المئات مواطنيه، ووجد لديه طاقة لتشجيع المنتخب المصري لكرة القدم في ستاد القاهرة بمباراة نهائي كأس الأمم الإفريقية، حيث بلغت الفرحة بزوجته أن منحته قبلة تهنئة على الهواء مباشرة بعد فوز منتخبنا. كان هذا بعد الكارثة بأسبوع واحد، لكن الحقيقة أنه بعد ساعات قليلة من غرق العبارة، وبينما كانت الأمواج تتلاعب بجثث 1033 مواطنا مصريا وأسماك القرش تتلقى وليمة العمر، كان آلاف آخرين يحتشدون في نفس الملعب من أجل مؤازة الفريق في مباراة أقل أهمية، بينما ملايين آخرون يتابعون المباراة عبر التليفزيون، وبعدها بأربعة أيام كانت هناك مباراة أخرى، ونصر آخر، حتى المباراة الكبرى في نهاية الأسبوع.
1033 جثة لم تمنعنا من الاحتفال، ولماذا لا؟
==============
في نفس العام تصادم قطاران وكانت حصيلة القتلى 51 حسب أقل تصريح حكومي (الأرقام تصل إلى 80)، وفي العام التالي تصادم آخر راح ضحيته 58 مواطنا، ثم 30 آخرين في 2009.
تبدو الأرقام مفرحة مقارنة مع كارثة قطار الصعيد في 2002، والتي راح ضحيتها 350 مواطنا في أقل تقدير رسمي، حيث اندلع حريق بالقطار الذي استمر منطلقا لمسافة 9 كيلومترات، وحاول بعض ركابه القفز مخاطرين بحياتهم خارجه، بينما تفحم آخرون بداخله والتصقت جثثهم بنوافذه أثناء محاولة التقاط آخر أنفاسهم.
هل يدفع المصريون ثمن الفساد.. أم ثمن قبولهم به؟
==============
ولقد قامت الثورة في 25 يناير 2011، وخلال أيامها الأولى قُتل 1075 شخصا، معظمهم قُتل بأيدي رجال الشرطة وتحت سمع وبصر الآلاف، في الميادين المفتوحة وأمام أقسام الشرطة، لكن القضاء المصري استقر إلى تبرئة كل المتهمين، بداية من أمين شرطة قسم الزاوية الحمراء، وحتى مبارك شخصيا. لم يكن في موت هؤلاء أي مدعاة لاستهجان معظم المجتمع، ظل الكثيرون جدا يؤمنون بأحقية الدولة في قتل مواطنيها.
لاحقا وفي نفس العام، يستمر القتل في مواقع عديدة، لكن تتفرد مذبحة ماسبيرو بأنها كانت نسخة طبق الأصل من فض اعتصام اللاجئين السودانيين: بداية من التحريض الطائفي ضد مظاهرة للأقباط، ثم مدرعات الجيش تطلق النار عليهم وتفرمهم تحت عجلاتها، التليفزيون الرسمي يستدعي المواطنين الشرفاء لحماية قواتهم المسلحة وبعض مشايخ السلفية يلبون النداء.. لتكون النتيجة هي ملايين المواطنين المؤيدين للمذبحة.
أجرى العسكر تحقيقات شكلية أدت إلى تبرئة كل المشاركين بالمذبحة، وفي العام التالي استقبلت الكنيسة وفد المجلس العسكري بترحاب رغم اعتراض بعض الأقباط، ومؤخرا اعتبرها البابا "تواضروس" مجرد حادثة، وجدد ثقته في المؤسسة القضائية، ويحظى هذا بتأييد الكثير من شعب الكنيسة. بعض من ارتكبوا المذبحة هم الآن أبطال قوميين في نظر المصريين أياً كانت ديانتهم.
ثم سيدفع الإسلاميون ثمن تأييدهم السابق فيما بين يوليو وأغسطس 2014 بأكثر من ألف قتيل، بنفس آليات التمهيد للوحشية، مرة أخرى بتوافق مجتمعي نادر، بل مطالبات بتوسيع القتل والقمع، وقبلهم وبعدهم سيدفع الشباب الثائر نصيبهم من الدماء، بينما أصبحت الرواية الخيالية للدولة أكثر تماسكاً، مدعومة بأحكام قضائية وتقارير استخباراتية ودعم شعبي، وحتى بإلقاء التهمة على الضحايا أنفسهم، أو اتهام طرف ثالث تتغير هويته حسب متطلبات المذبحة ومزاج الجمهور.

Thursday, December 4, 2014

أمي!!.. التي قتلت المتظاهرين



في باب الذكريات الإذاعية القديمة، كان يوجد برنامج يُذاع صباح أيام جمعة بعنوان "من الجاني؟"؛ بموسيقى فخيمة لا تناسب أجواء تراخي يوم العطلة، وبموضوع يقدم جريمة غامضة يتم عرضها صوتياً كأنها قراءة لإحدى قصص "أجاثا كريستي"، لتنتهي الحلقة دائماً بسؤال عن مرتكب الجريمة؛ من الجاني؟ ثم الإعلان عن جوائز لمن يتمكن من حل لغز الجريمة، وهي جوائز لم تكن تخرج عن شرائط موسيقية من إنتاج "شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات".
كطفل غير بريء، لم أكن أنشغل كثيرا بتفصيلات الجريمة وحبكتها، كنت أنصت أكثر لأداء الممثلين ذوي الخلفيات المسرحية التي كانت تحتم عليهم كشف السر بطريقة ضمنية: فالممثل الذي يؤدي دور الجاني كان يضيف زخرفة معينة تجعلك تعرف إنه هو صاحب الجريمة.. كلمة ممطوطة النهاية، صوت رخيم في غير محله، أو حتى محاولة فاشلة لكي يبدو ضعيفا أو تافها.
لم أكن أبداً بحاجة للغرق في حبكة الحلقة لكي أعرف الجاني.
============

لغوياً، نستخدم صيغة السؤال من أجل الحصول على إجابات، ولكن مغارة اللغة الثرية تحمل استخدمات أخرى، مثل التهكم، الاستنكار.. وتعمد إخفاء الحقيقة أيضا.
بعد ساعات من إصدار الحكم بالبراءة على مبارك والعادلي ومعاونيه، كشف اثنان من الصحفيين عن وجود توجيه سيادي للصحافة بأن يكون موضوعها في اليوم التالي هو"مبارك براءة.. من فعلها إذن؟"، وبشكل شخصي، كشف صحفي ثالث عن نفس التوجيه لجريدته. قبل نهاية الليلة، صدرت جريدة "التحرير" بالعنوان المنتظر: براءة فرعون وهامان.. إذن دم شهداء الثورة في رقبة من؟

"أمي!!!".. هكذا أجاب أحد مستخدمي فيسبوك عن السؤال، مستخدماً إجابة كلاسيكية في العامية المصرية أمام أي سؤال عبثي نعرف إجابته، وأرفق هذا بصورة مدرعة تطارد المتظاهرين، ومن فوقها ضابط شرطة يُطلق سلاحه الناري عليهم، مع إضافة تعليق آخر: أمي كانت سايقة المدرعة ودهست المتظاهرين وضربتهم بالرصاص!

 
بالنسبة لهذا المستخدم، لم يكن السؤال يتحمل رداً غير هذا، لكن هذا لم يمنع صحف اليوم التالي من الصدور حاملة نفس العنوان.
يمكن استبعاد أن الصحف تقيم مسابقة على غرار البرنامج الإذاعي، كما أن الصحف تطرح السؤال بجدية من كان غائبا عن البلاد وعاد ليكتشف الحدث منذ بدايته، مما دفع "أحمد خير الدين" مذيع نشرة "ON TV" للإجابة عن السؤال: يراد لنا الآن أن نردد هذا السؤال الأبله الذي يقول “من القاتل؟”، وكأننا لم نعرفه ولم نره!!

الأمر بسيط؛ السؤال غرضه هو "ادعاء عدم المعرفة"، تمهيدا لـ"إعادة سرد حدث قتل المتظاهرين"، هذه المرة سيكون القتلة هم أفراد من حماس والإخوان، تسللوا من على الحدود حاملين أسلحتهم الخفية عبر مئات الكيلومترات، بدون لفت أنظار قوات الجيش والداخلية والمخابرات والمؤسسات السيادية التي لا تنتهي، ليندسوا بين المتظاهرين، في التحرير وباقي الميادين والمحافظات، حتى أنهم وصلوا إلى ميدان المطرية كنوع من التجويد.. ثم مارسوا القتل في المتظاهرين بالمئات، لدرجة أنهم لم يميزوا بين القتيل الإخواني وغيره، ثم تركوا المتظاهرين يتخيلون حكاية أن الشرطة هي من قتلت رفاقهم.
هذا، وقد ساعدتهم "أمي" في القتل، وكان يمكنها إخفاء الجريمة تماماً، لولا أنها تُوفت قبلها بأكثر من 3 سنوات.
============

يقولون إن الإعلام بارع في خلق الأساطير، وإن براعته تبدو كالسحر الذي يمكنه إيهامك بتصور ما، ثم العودة لمسح هذا التصور.. هل تتصور أن هذا ممكن؟
سأبدأ بنفسي وأراجع ما أعرفه: عصر يوم 28 يناير، كنت في الصف الرابع أو الخامس من هؤلاء الذين صلّوا العصر على كوبري قصر النيل، قبلها بدقائق كنت أقف في سلسلة بشرية لمنع أي أحد من الاعتداء على مجموعة جنود تُركوا وحدهم عند باب نادي القاهرة، وبعد الصلاة لم أصدق عيناي عندما شاهدت ضابط بأعلى مدرعة يُطلق قنابل الغاز من سلاحه في مستوى رؤوس المتظاهرين، وبعد دقائق سقطت الصفوف الأولى وشاهدت المتظاهرين يحملون المصابين.. ثم لم أشاهد شيئاً لأني أصبت بطلقات الخرطوش في وجهي، كل ما سمعته كان المزيد من الطلقات وصرخات الألم الخوف، وكان هناك من يصرخ بأن أحدهم مُصاب في وجهه، وأعتقد أنه كان يتحدث عني.
لقد زالت آثار الخرطوش من وجهي الآن، وتبدو الذكرى قديمة بعد أحداث أكثر دموية مررنا بها، لدرجة أني أفكر في التساؤل حول "من فعلها؟" كما تنصحنا الصحف.

Monday, June 2, 2014

عن منع فيلم حلاوة روح: علينا فقط أن نشكر هيفاء



لماذا تسبب قرار وقف عرض فيلم "حلاوة روح" في كل هذا الجدل؟
بالتأكيد ليس لكون بطلته كائنا مثيرا للجدل بحد ذاته، ولا منتجه، الذي اشتهر بمثل هذه النوعية من الأفلام. الحقيقة أن هذه عوامل ثابتة في الموضوع، "هيفاء وهبي" اعتادت وعودتنا أن تكون هكذا، والسبكية اعتادوا وعودونا على هذا. ما هو الجديد إذن؟
الجديد هو أن الفيلم تم وقفه بقرار إداري من رئيس الوزراء، بدون أي محاولة لتكييف القضية قانونيا. رئيس الوزراء، الذي لم يأت عبر أي آلية ديموقراطية، استخدم فقط صلاحياته كرأس للسلطة التنفيذية، مخترقا مادة واضحة في الدستور تتيح حرية التعبير.
لكن كلنا نعرف أن الديفا اللبنانية والمنتج الشعبي لم يكونا يختبران حدود حرية التعبير، بقدر ما كانا يستغلان هوامشها، لتحقيق نجاح وربح. هذا هو ما يضيف التوابل والطعم المميز للقضية، كون الطرف المعتدى عليه، هو مخطئ من البداية، مع ما يفرضه هذا علينا لاحقا من انحيازات عصبية، أو تغيير لانحيازات استقرت سابقا.
المسألة بكل بساطة، وكما طرحتها الصحفية "دعاء سلطان": اليوم سيكون "حلاوة روح" هو الضحية، وغدا يتم منع فيلم لـ"داوود عبد السيد" (مثلا)، وطالما تغاضى المجتمع عن استخدام الإدارة لهذه الأداة الخطرة بسبب مثير جنسي، يكون هذا تصريحا باستخدامها سياسيا باتساع.
لكن الخيارات ليست سهلة بالنسبة لأهل الفن، فلقد استطاع هؤلاء تجديد صورتهم التي تشوهت أيام مبارك، وخلال أيام الثورة المربكة، واستقر الأمر بصورته الجديدة على كونهم منارات تحررية في مواجهة جحافل الظلاميين الإسلاميين، بكل خططهم الخبيثة ضد الفن والثقافة، لكن المشكلة الآن أن الدولة المدنية الحديثة هي التي تمنع وليس الإسلاميون.
ولا يعني هذا أن أهل الفن سيتحدون من أجل الدفاع عن السبكي، حيث يضعهم هذا في مواجهة الدولة التي اجتهد الكثير منهم في دعمها واتهام معارضيها بأنهم إخوان وخونة وعملاء. السبكي نفسه لن يغامر بأي اعتراض ضد قرار رئيس الحكومة، وربما كان أول المرحبين بقرار الوقف، فالفيلم لم يكن أداؤه رائعا في شباك التذاكر، والمنع سيزيد من أرباحه في سوق التليفزيون. هو رجل يترك أحشاءه في السوق ولا يقوى على تحدي الدولة.
==================
يحاول المتصارعون صبغ المجتمع المصري بألوانهم السياسية، فمرة يكون متدينا، للتأكيد على صحة اختياره للإسلاميين، ومرة يكون متطرفا ومتخلفا للتدليل على سوء الاختيار، ثم يصبح متسامحا ووسطيا، محبا للفن والانبساط، متحررا، جاهلا، ومثقفا ثقافة عميقة لا نفهما إلا في أوقات الانتصار.
الحقيقة أن كل هذا صحيح، الناس في مصر يعيشون في مجتمعات وليس في مجتمع واحد متحد وكبير، كما أننا جميعا مختلفون فرديا، وفي النهاية، كلنا نحسن القول ونتبع أسوأه. بعضنا قاطع الفيلم، وبعضنا وقف يهرش أمام السينما في تفكير عميق، آخرون ينتظرون تحميله ومشاهدته خلسة، بعضنا يرغب في إحراق بطلته كالساحرات، وبعضنا ينظر لها بحسد حارق.. وهناك من يمر بلا مبالاة.
لكن هذا المجتمع لم يكن له أدنى تدخل في محتوى الفيلم، ثم الموافقة على عرضه، ثم منعه. ورغم كون المجتمع هو الممول الحقيقي لعملية إنتاج فيلم وعرضه ثم فشله أو نجاحه، تمر هذه السلسلة بدون أدنى تدخل منه.
==================
الرقابة ضرورية. قلتها بصوت خافت في وقت ما من سنة 2012، كانت الحملة ضد الإسلاميين وقتها حماسية، قول كهذا كان كافيا لنفي صاحبه بعيدا عن شمس التيار المدني الدافئة.
كنت قد بدأت في كتابة هذه التدوينة منذ عام، ولاحظت لمزات واتهامات فلم أنشرها في وقتها، وها هو فيلم عديم الأهمية يفتح الموضوع على اتساعه.
سقف التوقعات وقتها كان اقتباس النظام الأمريكي والأوروبي في تصنيف الأفلام، وهو نظام يضع تقييمات لمحتوى الأفلام حسب عمر المشاهدين ودرجة احتياجهم للرقابة الأسرية حسب الرموز التالية.
G: جمهور عام، وفيها لا شيء يثير قلق الآباء، مثل معظم أفلام التحريك للأطفال.
PG: من الأفضل أن تصاحبوا أطفالكم في هذا الفيلم، فهناك محتوى "ربما" لا تحبون أن يراه أطفالكم.
PG-13: تحذير قوي للآباء من خطورة بعض المواد على الأطفال قبل سن 13 سنة.
R: يحتوي على مواد للكبار ولا تناسب الأطفال.
NC-17: غير مسموح بمشاهدته للمراهقين أقل من 17 سنة.
كما هو واضح، فإن هذا التصنيف يعتني بالمشاهدين الصغار تحديدا، وهو ما يختلف عن حالتنا التي نسأل فيها أسئلة محورية أخرى حول أهلية الكبار أنفسهم في المشاهدة، يضع نظام التصنيف المسؤولية على الآباء، وتتدخل دور العرض أحيانا في درجات التصنيف المتشددة بمنع المراهقين من المشاهدة.
إذا اقتبسنا النموذج،ستبرز عدة مشاكل أخرى في نظام التصنيف، أولها هي: من سيصنف؟
إذا قامت الدولة بالتصنيف، فهذا وضع لا يختلف عن وضعنا الحالي، فقط سنضع الرقيب في تعقيدات أكبر لفصل الأفلام التي تحتاج موافقة أبوية عن تلك الممنوعة للأطفال.
في أمريكا تتولى التصنيف "المنظمة الأمريكية للأفلام" (MPAA)، وهي منظمة تتكون من أكبر 6 ستوديهات هناك، باختصار تلك الاستوديوهات تحتكر صناعة السينما، وتعتبر تصنيفاتها إحدى أدوات تكريس الاحتكار والسيطرة، وهو ما لا يتعارض غالبا مع مصالح الأسر التي تهتم بهذه التصنيفات، بل تضغط منظمات أهلية محافظة لزيادة صرامة التصنيف أو تضييق مجال عرض أحد الأفلام. لا نشعر بهذه الاحتكاكات لأن لكل طرف مصلحته عند الآخر، وفي النهاية، قد يتواطأ الأقوياء لفرض تيار رئيسي ضد المختلفين، لكن اتساع المشاركة، واختلاف المطالب والأهداف، كفيل بترسيخ معادلة هادئة يتنازل ويربح فيها الجميع بنفس الوقت.
المشاركة الأقل، تعني سيطرة أعلى لأباطرة الصناعة في أمريكا، أو الدولة إذا ما اقتبسنا نفس النموذج في وضعنا.
لكن وحدهم المتطرفون يسعون إلى تضخيم الاحتمالات العجيبة؛ الإسلاميون المتشددون يحذرون من تحول دور العرض إلى مواخير تعرض أفلام البورنو، وأنصار التنوير الإجباري يرون أن المجتمع سيميل طوعيا لنسخة قناة الناس، يستخدم الطرفان استقطابات قديمة ومعتادة، ولا يفيد هذا إلا الدولة التي تزايد على الجميع في نفس الوقت: هي حامية الدين والأخلاق، محاربة التطرف، راعية الفن، وقامعة الحريات.. على أن ينظم القانون ذلك، كما تقول العبارة الدستورية الشهيرة.
إذا أردنا الوصول إلى معادلة مستقرة للإبداع الفني، بدون العودة إلى فوضى الحسبة التي نتجت عن استبعاد قوى المجتمع، فإنه علينا وضع نموذج خاص بنا للرقابة يكون فيه المجتمع صاحب الوزن الأكبر، بجوار الصناعة نفسها، على أن يكون وجود الدولة لمجرد التعبير عن رأيها، وضمان الصلاحيات.
تلك ستكون معركة طويلة إذا اقتنعنا بها من الآن، فالدولة في بر مصر لا ترضى أن ينافسها المجتمع في التنظيم والأخلاق.
==================
وعلى خلفية قضية منع عرض فيلم "Noah"، كان هناك نقاش مؤجل مع الصديق السينارست "وائل حمدي"، حيث له أكثر من مقال بخصوص رفض الأزهر لتمثيل الأنبياء في الأفلام. أتفق معه جزئيا في هذا، لكوني أعتبر الأزهر مؤسسة رسمية تابعة للدولة، وهي هنا تمثل ذراع الأخلاق، بينما أتحفظ شخصيا على "مشاهدة" ممثلين في دور الأنبياء، وأرى أن الخيار دائما للمشاهد، فالفرجة تعني أن التمثيل مقبول، والتحفظ ينهي القضية مبكرا في مرحلة التمويل، وقبل الرقابة.
لكن سيطرة المجتمع على الرقابة أو التصنيف، تعني بشكل غير مباشر أنه سيكون هناك ضحايا للمنع، فالأداة ستكون جديدة في يد المجتمع، ولن نصل فجأة إلى معادلة مستقرة، ثم فاجأني وائل بهذا الرد الذي يحمل جانبا تنظيميا مستقرا لتشكيل هيئة رقابية مستقلة مهمتها التصنيف:
الهيئة يتم تمثيل الفئات التالية بها: النقابة الفنية (صوت السينمائيين) غرفة صناعة السينما (صوت المنتجين والموزعين) وزارة الثقافة (صوت الحكومة) نقابة الصحفيين (صوت الإعلاميين والنقاد) الأزهر والكنيسة (صوت الدين) ممثلين عن النقابات المهنية الأخرى والاتحادات العمالية المختلفة (صوت الجمهور).. الفئة الأخيرة يجب أن تكون مساوية في الحجم للفئات اللي قبلها مجتمعة. تشكيل الهيئة يتم تجديده بشكل دوري، ولها حق متابعة التنفيذ على الأرض، وقراراتها التصنيفية ملزمة لدور العرض، كما أنها ملزمة للمحطات التليفزيونية بضرورة وضع تنويه عن التصنيف قبل عرض الفيلم أو المسلسل، عملية التنفيذ يتم إحكامها عن طريق عقوبات وغرامات مؤلمة للمخالفين.
==================
علينا فعلا أن نشكر هيفاء والسبكية

- نُشر هذا المقال في بوابة الشروق بتاريخ 14 أبريل 2014