Pages

دليفري للبهوات

Monday, October 29, 2012

قوانين الفراغ في العيد

كنا ننتظر موعد الغداء بملل لكي نأكل ثم نغادر مطعم "فلفلة" ونستأنف ممارسة العيد في البيت. كان هذا في أحد أيام العيد في مطلع التسعينات، عندما كان "فلفلة" أشبه بمشروع ملهى ليلي لكن معظم ساعات عمله كانت بالنهار (أتحدث عن فرع المريوطية الذي اندفن تحت الكوبري الجديد وتحول إلى منفذ بيع ساندوتشات الفول والطعمية)، لا أتذكر أنني شاهدته يقدم الكحوليات يومها، ولست واثقا من ذاكرتي تلك الآن، لكن ما أتذكره جيدا هو حسرتي عند مغادرة المكان، ففي نفس اللحظة اندفعت الراقصة الثقيلة "هندية" إلى المسرح بطريقتها الشهيرة التي تعتمد على الجري أكثر من هز الخصر. لقد كان هذا قسوة بالغة بالنسبة لمراهق تجلت أمامه الحقيقة التي راقبها طويلا على أشرطة فيديو أفلام المقاولات.
كان أبي مرهقا ويتحسب للمشوار الذي سيقطعه بطول شارع الهرم مخترقا وسط البلد والعباسية حتى يصل إلى البيت في الزيتون (في سيارة "فيات 128" كان يكره قيادتها). بالنسبة له، لقد قام بما عليه وزيادة، لقد انتهز الرجل فرصة طرح بونات المطعم في الشركة التي يعمل بها، البونات مخفضة جدا (للربع أو أقل)، لكن هذا لا يعني أنه بخل علينا، فبأسعار وقتها كانت هذه مغامرة ترفيهية لا يقدر عليها إلا القليلون، وظهر أمام زوجته كرجل لا يخشى ولوج الأماكن الفاخرة بقبيلته الصغيرة، صحيح أن العيال لا يبدون سعداء لأن المراجيح الملحقة بالمطعم كانت متخلفة، لكن وجبة الغداء كانت تحتوي على كباب مشوي يدخل البيت نادرا، ورغم أنه كان ربما يشعر ببعض الفضول تجاه الراقصة، إلا أنه استراح فعلا لانتهاء الفسحة عند هذا الحد.. لقد كان يشعر بشكل ما (مثل باقي الأسرة) أن هذا ليس مكانهم.
تلك الفسحة رسمت السقف الأقصى لمستوى الترفيه الذي يصلح لنا في الأعياد، أما الحد الأدنى فقد رسمته والدتي (رحمها الله، ادعوا لها) قبلها بزمن، عندما سألتها ببراءة في يوم عيد مشمس عن سبب عدم خروجنا للاحتفال في الحدائق مثل باقي الشعب، وكان رأيها أن هؤلاء "ناس مش كويسين" يعيثون فسادا في الحدائق ويغرقونها في القمامة وبقايا الأسماك (كانت متأثرة بيوم شم النسيم وعيد الفطر). وكنت أنا طفلا رائعا يستمتع حقا باتباع القواعد والقوانين.
فهمت أنه لا مكان لنا مع هؤلاء الذين يستمتعون بمشاهدة "هندية"، ولا هؤلاء الذين يفرشون ملائة على النجيلة لأكل السردين المخلل.
ببساطة، انكتب هذا القانون في الوصلات النيتروجينية بشريطي الوراثي. حاليا تتذمر زوجتي لأننا قضينا عطلة عيد الأضحى بالكامل في البيت، وهي كأمي لن تستمتع غالبا لو فعلنا هذا أو ذاك، ولكنها لم تعتاد الرضوخ للأوامر الغامضة التي تأتي من أعماق الجينات "أن امكثوا في بيوتكم، العيد ليس لكم".
في المراهقة المتأخرة، خرجت مرارا عن هذا القانون، كنت أعشق الذهاب للسينما في أول أيام العيد، وكانت هذه مغامرة تحتاج إلى ذكورة حقيقية حتى تخترق الجموع المحتشدة حول شباك التذاكر، بأنفاسهم المفعمة بعبق الكشري (وليس السردين)، وتأتي اللحظة الحاسمة، ليس عندما تنال التذاكر، بل عندما تمسك بيدك قضبان شباك التذاكر ولا يكون بوسع أحد أن يزيحك عنه.
لم أفعل هذا بنية كسر القانون إياه، لم تكن هناك أي نية إلا الابتعاد عن المنزل (العيد أيامها كان يأتي خلال الدراسة مما يجعل الرغبة في الخروج ملحة)، أو ربما محاولة خوض مغامرة وإثبات أنني لست أقل قسوة من أكلة الكشري هؤلاء، لذلك سرعان ما تخليت عن هذه العادة بعد دخولي الجامعة، وساعدتني على هذا الحدود الطبقية التي اتضحت أمامي، فممارسات الكشري تلك كانت تعني انحياز هويتي إلى الجانب الأدنى مظهريا، من ناحية أخرى كنت أراني قريبا من هؤلاء الذين تتعدد أمامهم أماكن الترفيه الراقي، مع إدراكي التدريجي لحقيقة أنني لن أكون قادرا على الاستمتاع مثلهم (تشهد على هذا شهور كنت أدخر فيها مصروفي بالكامل لأجل خروجة راقية ومحبطة). كآلية دفاعية، عدت إلى القانون القديم، أنا لا أنتمي لهؤلاء أو هؤلاء، ولفترة كان هذا جيدا، أن تقتنع بأن عجزك عن الاختيار وعن الفعل هو قرار شخصي، وأن الاقتناع ذاته يجعلك متميزا عن هؤلاء الذين يقاومون القانون ويطيعونه مجبرين.
لكن مؤخرا تنبهت إلى أني فعلا لا أشعر بالسعادة في العيد (ولا أستطيع استخدام ألفاظ أقوى من هذا لأن الأمر يحمل جانبا دينيا)، لقد تمكنت زوجتي من إعادة بعض البهجة للعيد بإصرارها على الذهاب لصلاة العيد في ساحة تجمع معظم أهلنا، وكنت قبلها أقوم بـ"أداء" الصلاة في أقرب زاوية بلا طقوس معينة، وتمتد بهجة العيد حتى إنهاء جولة الزيارات العائلية (كنت أنفر وأتهرب منها بدون حتى البحث عن حجة ما).. لكن بعد انتهاء هذه البهجة الحديثة، لا يبقى إلا الفراغ، فراغ يدوم طوال عطلة العيد، تتخلله مشاريع لقصص وتدوينات، نوايا العودة لممارسة الرياضة والمواظبة على الصلاة بالمسجد، بدايات فاشلة للريجيم وقرارات عاطفية صارمة تتبخر في أول يوم بعد العيد.

أعترف أنني غير سعيد في العيد، وهذا ليس نتيجة جروح النستالجيا العميقة التي تذخر بها تدوينات مواليد السبعينات (انظر لتدوينات محمود ناسا والبراء أشرف!)، فأنا لا أحتفظ بذكريات سعيدة من أعياد الطفولة (ولا أحتفظ بأي ذكريات سعيدة عموما. إذن، المسألة ليست شخصية أيها العيد).
المسألة أكثر تعقيدا من الحدود الطبقية السابقة، فلست وحدي الذي لديه مشاكل مع العيد، هناك اللادينيون الممتعضون (على حد وصف أشرف الشريف)، وحسب معرفتي بهؤلاء فإن مشكلتهم مزيج من نستالجيا غائمة من أيام الطفولة، مع آيديولوجيا ترى أن الدين عبارة عن مجموعة طقوس تراثية شعبية تستحق بعض التسامح والتعالي، لكن يجب الحفاظ عليها في إطار التنوع البيئي، مع عدم إتاحة المجال لها لأكثر من ذلك (التعبير المثالي لذلك هي الابتسامة البلهاء على وجه حسين رياض وهو ينتهي من صلاة العشاء ثم يتلو آيتين في نهاية الفيلم ليوقظ ضمير أحدهم، نفس الرجل سيصبح الآن رجعيا إذا مارس طقوسه مراعيا أصولها الأولى، ويصبح جاهلا إذا انتخب من يتفق معه في هذه الطقوس).

في أول معرفتي بيوم عرفات تعرضت لخديعة كبرى، فلكي تتخلص خالتي مني، أمرتني أن أقعد أمام التليفزيون وهو يذيع بثا مباشرا من عرفات لكي أشاهد جدي الذي كان يحج وقتها (وصدقتها لأنها تتمتع بصرامة تجعل أوامرها في قوة القانون)، المشكلة ليست في أنني لم أنجح في العثور عليه، ولكنني عثرت عليه أكثر من 29 مرة (خداع بصري لأن هيئة جدي كانت أشبه بالمجاهدين في فيلم "عمر المختار")، بعد عدة سنوات كُلفت بنفس المهمة مع أبي لكن مارستها بفتور بعد أن أدركت الخدعة، وبعد سنوات أخرى أجبرني أبي أن أجلس بجواره لساعات وهو يشاهد نفس الحدث (الذي يبدو لي مكررا طبعا)، لم أشعر وقتها بنفسه التي تتوق للعودة إلى هناك (وهو شيء بدأت أختبره مؤخرا فقط). التليفزيون الذي هو عنصر مكرر في كل هذه الأحداث، كان شيئا مكروها في أدبيات عائلتنا، وكان يُمنع تماما في أيام الدراسة (فيما عدا مسلسل السابعة على القناة الأولى، لتكتمل التشوهات الشخصية بمشاهدة مسلسلات مثل "وعاد النهار" أو "زينب والعرش")، ومن العار أن نشغله إذا كانت هناك حالة وفاة في محيط جيران الشارع، نفس التليفزيون كان يصبح إجباريا في يوم عرفات، إضافة إلى الحلقات الأسبوعية للشيخ الشعراوي (كنت أرى ساعات اليوم وهي تتبخر أمامي في التحديات اللغوية للشيخ بينما يوم السبت يقترب بكل شراسة)، ثم بعدها في مباريات كرة القدم التي كرهتها بصدق في طفولتي.
المهم، لقد تركت هذه الخبرات التليفزيونية لديّ نفورا من أي تلقين إجباري، وتركت أثرا في علاقتي بالعيد لكون معظم طقوسه جماعية إجبارية (أتحدث عن الطفولة). أهم هذه الطقوس هي صلاة العيد، وهي كانت اختبارا قاسيا لتفاعلي الاجتماعي، فلم أكن معتادا على رفع صوتي في وسط أي تجمع بشري (في المظاهرات كنت أهتف بصوت خفيض وأنا أشعر بالخجل)، وبالتالي كنت أجد صعوبة في التكبير فكنت أمارسه في سري، وأضيفت مشكلة جديدة مؤخرا بالخلاف الفقهي على كلمات التكبير نفسها، وسيطرة جماعة الإخوان المسلمين على الساحات القريبة جعلت اختيار مكان الصلاة أمرا سياسيا، ويمكن أن أضيف الأمور التي يرددها أعداء العيد الأصليون (أعني اللادينيون)، مثل سوء صوت الشخص الذي يتحكم في مكبر الصوت وتداخل الأصوات من الساحات المتنافسة. وأخيرا تأتي الضربة الحاسمة: سهرة مع أصدقاء وعدوك بأن يستمروا معك حتى الصباح ثم تساقطوا واحدا تلو الآخر قبل الفجر، فتقول لنفسك "آه، إنها بداية أخرى سيئة للعيد".

1 comment:

بنت القمر said...

انا بكره العيد عادي بكره العيدين وبكره اخر ايام رمضان ومش مرتاحة(توصيف حذر)لفكرة ان الشياطين بتصفد فيهم... اعقد واسوا فترات حياتي مرتبطة بالعيد..ازماتي الشخصية.. ارهاقي البدني.. اصبح اكثر ما اطمح له ان العيد يعدي بدون كوارث اما الفرح ففكره طفولية هبلة ها نخليها لمواليد التسعينات وما طالع :)))