Pages

دليفري للبهوات

Monday, January 10, 2011

أوهام مشمسة

كانت شبورة خفيفة ساكنة في حالة انعدام الوزن فوق تربة الحوش، وكان الشيطان جالسا فوق السور القصير في وضع غير مريح، ممسكا بساندوتش فول في ورقة جريدة، وسألني "أنت اللي بتلعب مع عماد؟"، هززت رأسي أن "نعم"، قال وهو يدس الساندوتش في فمه "ده مسيحي.. ماينفعش تلعب معاه".

------------

هذه معلومة لمن لا يعرفون معنى أن تكون جديدا في مدرسة أميرية، وأن تكون قادما من مدرسة خاصة حيث الميس والكلاس مقارنة بالأبلة والفصل، وأن تكون عضوا خبيرا في مدرستك ثم تنتقل إلى قاع السلسلة الغذائية في الصف الأول بمدرسة جديدة.

لا شيء. هكذا يجري الأمر عندما تكون جديدا وصغيرا ورقيقا بفعل معاملة الميس، أنت تكون لا شيء، أو قيمة مهملة بجوار اللا شيء، لن يتحرش بك الأشرار لأنك لم تصل بعد للمرحلة التي فيها يصبح التحرش بك مجديا، الحوش وقت الفسحة كان كوكبا حديث العهد بالحياة تتصارع فيه بصخب ديناصورات ضخمة وطيور مفترسة وحيوانات غير عاقلة، لهذا لا يهتم أحدها بثدييات الصف الأول التي تنتقل برعب من جحر لآخر.

لم يكن الأمر دائما هكذا. في يوم ما قابلت عماد القادم من الصف السادس، لم أكن أجرؤ على طلب اللعب معه، لكنه هو الذي طلب. كانت لعبتنا بسيطة، أن أجري ورائه طوال فترة الفسحة، ولم أكن ألحق به أبدا، لكنه كان يعود إليّ عندما أسقط، يساعدني في القيام من جديد ثم يهز رأسه للخلف وينطلق جريا وأنا وراؤه. لم تكن لعبة عادلة، لكنها أفضل من البقاء مع الثدييات.

لا أتذكر من ملامحه سوى البثور التي كانت تملأ وجهه، وتضح أكثر عندما يبتسم، كان يرتدي قميص وبنطلون على خلاف الثدييات التي ترتدي المريلة، ومع مرور الوقت جاء صديق آخر له، وأصبحت أُطارد اثنين، لكنني صرت شخصا له أصدقاء. لم يكن يتدخل إذا ما داس علي أحد الديناصورات، ولم أكن لأطلب منه هذا، لكنه الشعور بفرصة الانتماء لفصيلة أعلى.

لكن في ذلك اليوم الغائم، والولد كثيف الشعر الذي لم أره قبلها مستمر في التهام ساندوتش الفول، سمعت لأول مرة كلمة "مسيحي". أكتشف الآن أن أهلي وأسرتي لم يذكروا هذه الكلمة أبدا خلال طفولتي، ربما لأني كنت قيمة محايدة بين كل الأديان، أو ربما لأنهم لا يهتمون، أو لأن الموضوع مثل الجنس يتأجل الحديث به إلى ما لا نهاية.

يومها لم أفهم معنى أن يكون عماد مسيحيا، لكنني عرفت أنه شيء آخر لا يمكن أن أصبحه.

قلت له أنني لن ألعب معه لأنه مسيحي، فاستدار وانصرف هو وصديقه بدون كلمة واحدة. عرفت الآن معنى المشهد السينمائي الشهير عندما تهبط يد الأب على وجه ابنه فينظر ليده المهتزة بذهول وبغض، وعندما يغرس البطل سكينه الغاضب في أحشاء حبيبته فينهار معها بيأس وضياع. لا يحتاج الأمر لمرور الوقت حتى نشعر بالندم على بعض أفعالنا، هذه الأفعال كأنها تحفز الندم بمجرد انطلاقها.

أتذكر مئات الإهانات التي طعنت بها الأصدقاء طوال حياتي، وكيف كان يمكننا مسح الإهانة والاستمرار من جديد. لكن عماد لم يقبل بهذا.

قابلته بعدها مرة واحدة فقط، ولم أجد فرصة لأكثر من التحية العادية، ثم غادر ولم أره مرة أخرى.

عندما أتذكر تلك الحكاية، أعتقد أحيانا أنها من اختراع خيال الطفولة الخصب، بداية من عماد ذي النمش، وصديقه عديم الاسم، فتى الفول الذي لم أره قبلها ولا بعدها، والشبورة الغريبة التي لفت ذلك اليوم الكئيب. لكني أتذكر جيدا طعم التراب في فمي وأنا أجري لاهثا بلا انقطاع وسط الديناصورات التي لا تعبأ بي، مطاردا من أظنهم الآن أصدقائي، في يوم مشمس لا يمسه ضباب.

4 comments:

Michel Hanna said...

انت رائع يا محمد

Unknown said...

يانهارك مش فايت!!
ايه يا محمد الجمال ده؟..رائعة فعلا !!

B@g0 said...

amazing ya 7sain ..
waiting for that book "Al-A3mal Alkamela" ;-)

Anonymous said...

جامدة...استمر