Pages

دليفري للبهوات

Wednesday, January 5, 2011

الآن أصمت

لا أعرف، هناك أمور تبدو معقدة أثناء التفكير بها، لكنها تنحل تلقائيا عندما تبدأ في الكتابة عنها، الكتابة تشجع على التفكير، تجبرك أولا على تفريغ الكراكيب التي تملأ رأسك في ورقة لتبدو كأسوء ما يكون، ثم يمكنك تجميع هذه الكراكيب العصبية لتصل إلى الشكل القابل للتداول مع الآخرين.

شخصيا لا أحب أن أبدو نصف عاقل بلوحة كمبيوتر تتيح له تسجيل ما يشاء، كما أنني أخاف أن يُساء فهمي، حتى لو كان جمهوري يتلخص غالبا في شخص واحد (صيدلي وكاتب تقع مدونته على الناصية القريبة من مدونتي ويشجعني دائما بتعليقاته).

لهذا كنت قد قررت الانتظار لأطول فترة ممكنة قبل أن أتكلم عن حادث تفجير كنيسة الإسكندرية (وكأن أحدا ينتظرني لأكتب بينما هناك مليون صفحة على الأقل عن الموضوع). لن أبدأ بمدخل التنديد ووصف الحادث بالإرهابي، فهو كوصف الماء بالماء، وهو ميزة تجدها لدى من لا يتوقعون أن يسمعهم الكثيرون. قل شيئا جديدا ومفيدا، أو اصمت الآن.. هكذا أقول لنفسي.

اسمع أنت الآن.. كل شيء متصل ببعضه، نحن نعيش في شبكة أوان مستطرقة كونية، ما تعتبره حدثا اليوم هو مجرد خلفية لحدث الأسبوع القادم. عندما أبلغني صديق بوقوع الحادث بعد ساعة تقريبا من وقوعه، تذكرت سؤال وجهته له الصيف الماضي: هو الإرهابيين راحوا فين؟

لم يكن سؤالا بالمعنى الفني لعلامة الاستفهام، كنت ألفت نظره إلى أن جزء من توحش "لا نظام مبارك" (حقوق الملكية ترجع لمحمد طعيمة في تلك التسمية) يرجع إلى كونه قد تغلب على معظم خصومه المحليين والخارجيين (لا تصدق أن الأخوان خصوم له)، في التسعينات كانت الجماعات الإرهابية وظهيرها المتطرف شوكة في جانب مبارك ونظامه (سأتوقف هنا عن كتابة "لانظام" لأنها مربكة للعين وعليك فهمها ضمنيا بعد ذلك)، لم يكن هذا المقاول الكبير يجرؤ على بيع الغاز لإسرائيل والتآمر في وضح النهار ضد الفلسطينيين وضرب المعارضة وحماية اللصوص بينما جبهته الداخلية غير آمنة وكرسي الحكم لا يزال دافئا بعد اغتيال صاحبه السابق.

كان مضطرا لتنفيذ خططه في الخفاء خوفا من هؤلاء، مع بناء منظومة ضخمة للإلهاء الإعلامي والسياسي تستخدم الإرهابيين أنفسهم في استجداء الغرب، وكان مجبرا على معادلة ضخمة تتطلب القضاء على الإرهاب بمساعدة باقي المجتمع.

عندما كنت طفلا لم أفهم أن تفجير شارع شبرا كان موجها ضد الأقباط (المسيحين يا سيدي فكلنا أقباط بالتاريخ)، فهمت فقط أن الناس كانوا يمشون ويتاجرون ثم هبت عليهم موجة نارية من المسامير والشظايا لتطيح بأشلائهم دون ذنب يُذكر، ومقارنة باغتيال رفعت المحجوب، كنت أرى (وأنا طفل والله) أنه الأخير صراع بين حكومة فاسدة وإرهابيين يائسين لا يستدعي تعاطفي مع أي من النوعين، من موقع الطفولة لم أكن راصدا جيدا للمجتمع من حولي، لكني أشهد أن الجميع كان ينظر بتبلد إلى صورة سائق المحجوب وجمجمته مهشمة على زجاج السيارة. كان هذا مثل حوادث السيارات، بشع لكنه لا يستدعي اهتماما أكبر من اختلاس النظر على جانب الطريق.

أقارن هذا بقشعريرة إنسانية وجدتها عندما رأيت صورة امرأة من ضحايا الحادث، وقد تجرد مخها من عظم الجمجمة وجلدها وشعرها، صديق لي نشر الصورة بغرض إجراء صدمة لهؤلاء الذين يتعاملون مع التفجير على أنه "مجرد حادث"، وها أنا قد ساعدته في الترويج لصورة المرأة المسكينة.

لا أعرف، أعتقد أنه لا أحد يتعامل معه من هذا المنطلق، زملائي المسيحيين في العمل قالوا لي أن سلوكي كان اعتذاريا (شخصيا أرى أنه لا يجب عليّ الاعتذار عن سلوك لا يخصني ولم أقره مسبقا كما أن الاعتذار هنا إجراء سخيف وغير مفيد)، زميل آخر من النوع الذي يغطس في اللعب بهاتفه البلاكبيري الجديد عندما تأتي سيرة السياسة، جرب وضع علامة الهلال والصليب على صفحته بالفيسبوك ورأيته يتفحص متحسرا صفحة "مريم فكري" التي راحت ضحية الحادث. على نطاق أوسع، كانت هذه أول مرة أرى إدانة من الداعية السلفي محمد حسان، وأثناء إنهاء التدوينة اتصل بي صديق آخر يستغرب أنني لن أشارك اليوم في صلاة الدروع البشرية وقال إنه سيذهب ليعزي ويشد على يد أي شخص وخلاص (سيحتاج لارتداء جلباب أبيض ويطيل لحيته حتى يكتمل مشهد العزاء التليفزيوني).

المصريون عفويون. هناك من أشار في البداية إلى حادث العمرانية كمحفز للتفجير، لكن بمجرد انتشار الصور والفيديوهات انكتم الجميع وهو يتخيلون أنفسهم جثثا ممزقة على جانب الرصيف لمجرد أنهم مروا أمام كنيسة في الوقت الخطأ. إذا اقتربت منهم أكثر سيشعرون بالربكة، ثم يرددون عبارات فارغة حفظوها من أفلام حسن الإمام ونشرات التوعية التليفزيونية.

وكعادته، لم يُقصر الإعلام في التنديد (التنديد يصيب بالإدمان وهو ضار جدا بالصحة)، في صبيحة الحادث استدعى برنامج "صباح الخير يا مصر" أحد المشايخ وتركوه يتحدث في الفترات التي يعجزون فيها عن الوصول إلى مصطفى الفقي وعلي الدين هلال (الأول بذل مجهودا مضنيا في جميع القنوات لدرجة أنك تكاد تحسبه مذيعا محترفا بدوام جزئي)، وندد الأزهر (هل في ذلك خبر؟)، وخرج مبارك من عزلته في شرم الشيخ ليضيف تنديد رئاسي آخر، كما توقفت مجالس الشعب والشورى والموازي عن تسليتنا ونددت (تم تأجيل جدول التسلية لأسبوع على الأكثر)، التقط المشايخ صورا مع القساوسة، وسار رجال الإعمال مع عمال مصانعهم في وقفات (تخيل!)، شارك الفنانون بنظاراتهم الشمسية (والفنان في وقفات سريعة تحظى بالتغطية التليفزيونية الملائمة وأعادوا تحذيرنا من الوهابيين الذين استولوا على البلد.

أحيانا تكون السخرية مغرية. المسافة بين الفقرتين الماضيتين هي الفارق الذي أراه بين التعاطف الحقيقي والتنديد الميكانيكي ذاتي الاستجابة (يعمل خلال ساعة بدون شحن مع وجوب التنسيق الحزبي). ورغم توافر النوعين إلا أنه لم يكن كافيا للبعض، وقبل أن تسيء فهمي كما هو معتاد (عادتنا الوطنية)، هذا البعض ليس مسيحيا.

أولا دعونا نتجول في أحد أفرع الأوان المستطرقة. بعد أيام من حادث الأقصر الإرهابي تم تحميل اللواء حسن الألفي النتيجة ثم ارتدى البيجاما المنزلية المريحة. قارن هذا بحبيب العادلي الذي عرف منذ شهور أن هناك تهديدات حقيقية ضد الكنائس المصرية وتقريبا تجاهل المعلومات (جزء كبير من قواته كان مشغولا في تأمين عدة عشرات من الإسرائيلين في مولد أبي حصيرة)، ورغم أن سجل فشله أصبح أثقل من كل أسلافه، يبدو أن مبارك لديه المزيد من الصبر عليه طالما أنه هو شخصيا لم يتعرض لاعتداءات.

سأجعل موقفي واضحا تجاه العادلي: أنا أكرهه كما أكره كل رجال الصف الأول والثاني بالنظام (صديق لي يضيف الصف الثالث أيضا)، هؤلاء يدركون جيدا فساد مقصدهم ولا فائدة من الحوار معهم (لقد حولوا الحوار إلى رياضة صباحية بدون مغزى آخر غير نفسها). وكنت أراها فرصة نادرة للتخلص منه بعد دستة من التفجيرات في جنوب سيناء والقاهرة تتحمل وزارته ما بها من تقصير أمني.

في جنازة الضحايا كان غضب المسيحيين لأول مرة متوجها في الاتجاه الصحيح عندما هاجموا كل رموز النظام الذين حضروا الجنازة (ومنهم مفيد شهاب المبعوث الشخصي لمبارك)، لأول مرة كان الغضب الخام صحيح الاتجاه ضد من يمنعون بناء الكنائس، ويقيدون ترقي المسيحيين في الشرطة والجيش والوزارات (السلفيون يمكنهم الكلام كما يحلو لهم على الفضائيات لكن أحدهم ليس وزير الداخلية ولا القوى العاملة)، غضب لم يتلوث بعد بالوعود والاتفاقات التحتية وكان يمكن أن يؤدي إلى نتيجة ما أفضل من مسلسل الاحتواء التنديدي المرسوم مسبقا.

بالأمس شارك بعض الناشطين المسلمين في تظاهرة مسيحية بشبرا، وكان غرضهم واضحا لإشعار المتظاهرين أن المصلحة مشتركة، ثم أثناء التظاهرة قامت قوات الشرطة بانتقاء هؤلاء الناشطين من ضمن الجميع واعتقلتهم، لتوجه لهم تهمة الاعتداء على ضباط الشرطة (لا أعرف كيف يمكن لنشطاء الفيسبوك الاعتداء على ضباط الشرطة المدربين لسنوات على إجراءات الإهانة والتعذيب). لقد تعدى هؤلاء النشطاء الخط المرسوم، وهو خط يسمح بتظاهر بعض المسلمين أمام كنيسة القديسين هاتفين "الله أكبر"، بينما لا يسمح بانضمام مسلمين في تظاهرة تطالب بحقوق المسيحيين، لأن الأخيرة قد تنقلب إلى المطالبة بحقوق الجميع. تظاهرة مثل هذه كان يمكن أن تطيح بسفاح الداخلية، وليست هذه بنهاية سيئة لأسبوع دموي.

فيما يخص مصالح المسيحيين المكلومين، طالب رفعت السعيد بإصدار قانون بناء دور العبادة لكن شهاب كتمه ببراعة واتهمه بإثارة الجمهور (السعيد كان ينفذ دوره كما تسلمه في السيناريو القديم لكن لم يبلغه الآخرون أن هناك تعديلات يقتضيها الموقف)، تم الإفراج عن باقي المتهمين في أحداث العمرانية وكأن شيئا لم يحدث ولم أعرف حيثيات الإفراج (سيقول المسلمون أنها محاباة لكن قولهم سيكون من قلة الذوق بينما سيصمت أنصار الدولة المدنية الخيالية عن هذا الخرق القانوني)، لن يتغير شيء في باقي المطالب (ربما يُؤلف شهاب قانونا جديدا للأحوال الشخصية ويريح البعض)، والعادلي باق حتى الكارثة القادمة وما بعدها (الشعب في خدمة الشرطة).

كارثة مثل هذه كانت فرصة لكي تطعن خصمك وسط الزحام، وعوضا عن غرس أسناننا في لحم الطاغية، كان الأسبوع الماضي وقتا لتصفية الحسابات التاريخية، صباح الحادث وجهت فريدة الشوباشي نقدها إلى شيوخ الفضائيات على بث التطرف بين المواطنين البسطاء (على أساس أن هؤلاء البسطاء هم الذين يختارون لواءات الجيش والشرطة ويفصلون القوانين)، ورغم مسارعة جماعة الأخوان المحظورين (من حظيرة) بالتنديد الإجرائي، فإن معظم الكتابات حملتهم المسؤولية، وأصبح محمد سليم العوا هو المحفز الأول للإرهاب بمعركته الشهيرة مع الأنبا بيشوي، ومحمد البرادعي مخطئ لأنه لم يقطع رحلته للنوبة.

حتى الآن لم يتم الكشف عن منفذي الحادث، ولا أظن أن هذا سيحدث (هناك نقص كبير في المختلين عقليا الذي يجيدون تركيب القنابل)، مع احتمال أن تكون أطرافه خارجية تماما (وفي هذا راحة للمسلمين والعادلي الذي سيطلب زيادة في ميزانية الأمن المركزي لمواجهة القاعدة)، وفي أحد جروبات الفيسبوك تلميح بأن يكون نظام مبارك هو الذي نظم التفجير في هذا التوقيت الحرج انتخابيا، بحيث نتوحد جميعا على انتخاب مبارك حتى نهاية الزمان (منذ ساعات أقر مجلس الوزراء تعديلات ثالثة على الدستور بخصوص الانتخابات الرئاسية تتيح الاستمرار في المسرحية).

لا أريد أن أبدو عديم الإحساس، ولكن كانت هناك فرصة واحدة للتوحد ضد العدو المشترك الذي ينظم المسارات التحتية للتطرف ببراعة، وقد ضاعت في تصفية الحسابات، والآن سنصمت حدادا ونعطي الطاغية المزيد من الوقت، لكن السنة في بدايتها، وهي تشبه كثيرا 1951.

4 comments:

Michel Hanna said...

سلمت يداك

Michel Hanna said...

انت غيرت العنوان يعني
متهيألي دستور مزرعة الحيوان كان أحسن!

محمود عزت said...
This comment has been removed by the author.
محمود عزت said...

بالمناسبة ليك متابع تاني
:))
سلمت يداك فعلاً