Pages

دليفري للبهوات

Saturday, March 28, 2015

كيف تصنع عاصمة جديدة في ألف سنة؟


تبدو مدينة السادات التي تبعد عن القاهرة مسافة 92 كيلومترا وكأنها نموذج ساخر للعاصمة، فالمدينة أسسها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات عام 1979 لكي تكون عاصمة مستقبلية تحمل اسمه، وبحيث تكون نواتها هي مقرات حديثة للوزارات الحكومية، وحتى اغتياله كان المشروع يسير بشكل جيد، ومعالم المدينة تتضح وكأنها مرآة تعكس صورة نظيفة وحديثة ومنظمة للعاصمة العتيقة. حاليا تفخر مدينة السادات بأن عدد سكانها يزيد عن 150 ألف مواطن، لتصبح (بعد كفاح) أحد مراكز محافظة المنوفية على حدودها الغربية، وانضمت المقرات الوزارات الافتراضية إلى جامعة المنوفية، بينما لا يزال ركاب وسائل المواصلات الداخلية يستلهمون أسماء المحطات من الوزارات التي لم تحل أبدا في مدينتهم.
في أيام السادات، بدأت مشاكل القاهرة بالتفاقم، لكن لم يكن الزحام وانهيار الخدمات هو ما دفعه لمحاولة إنشاء عاصمة جديدة. كان السادات يرى أنه يؤسس لنظام جديد مشتق من دولة يوليو، نظام جعله يواجه انتفاضة واسعة في 1977 وانقلاب دولاتي قبلها، لذا كان من المنطقي أن يسعى للهرب من تلك المدينة الضخمة التي تمتلئ بالجماهير المتحفزة. قفز السادات إلى الشمال الغربي بمدينة تحمل اسمه، لكن لم يكتمل مشروعه وأصبح مجرد ماكيت ساخر لعاصمة إدارية.
تاريخ مدينة القاهرة كله، منذ ما قبل نشأتها حتى، كان عبارة عن محاولات مستمرة من أصحاب سلطة جدد للهروب من جمهور المدينة وتأسيس عاصمة جديدة. أسس العباسيون مدينة العسكر كمركز لدولتهم، وكانت ضاحية عسكرية لمدينة الفسطاط التي كانت عاصمة سابقة أسسها العرب، ولمدة 77 عاما مُنع العامة من سكن االعسكر، ثم تتكرر القصة بحذافيرها في إنشاء مدينة القطائع، ثم القاهرة ذاتها.
التصميم الأولي للقاهرة كان يجعلها أشبه بمجمع “كومباند” سكني وإداري للنخبة الحاكمة الجديدة التي جاءت من أقصى غرب القارة، لذلك كان سور المدينة هو أول المنشآت بعد قصر الحكم، ولم يكن ممكنا إغلاق المدينة على النخبة الحاكمة وحدها، فكان كومباوند القاهرة مفتوحا للعامة بشروط خلال النهار، مغلقا تماما أمامهم (وكذلك الغرباء) أثناء الليل، واستمر هذا الوضع لمدة 200 عام.
ما الذي يمكن أن يحدث خلال 200 سنة؟ فقدت الدولة الفاطمية هيبتها، استمرت القصور في الحكم، بينما ترنحت المدينة. في هذا الزمن وصل الصليبين إلى ساحل النيل، فاضطر آخر خليفة فاطمي إلى إحراق المدينة الأم؛ الفسطاط التي ارتفعت ألسنة اللهب بها لمدة 45 يوما وفقدت أهميتها كعاصمة تجارية وصناعية للأبد، فلاذ أهلها الجوعى بعاصمة الخلافة، ونزلوا بالمساجد والحمامات والأزقة. تهافت عسكر الدولة، فامتلأت الحواري المقطوعة لهم بالحرفيين والتجار والحرافيش. سُبكت المدينة الحقيقية على ألسنة النار.
المدينة الجديدة كانت أصعب مراسا، التهمت العواصم الأولى كلها وهضمتها تماما، ثم استمرت في التوسع، لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي وجد نفسه بحاجة إلى بناء سور آخر قوي يرسم حدودها الجديدة بحزم، وكأنه كان يسعى يائسا إلى تحجيم تلك المدينة الشرهة لالتهام كل ما حولها
كرجل قضى معظم حياته في الحرب، كانت إضافته الراسخة هي “قلعة الجبل” التي صارت مقرا للحكم في مختلف الدول اللاحقة، لم يؤسس صلاح الدين مدينة جديدة كأسلافه، ولكنه كان أكثر عملية وأسس فقط مركزا جديدا ومحصنا الحكم، ومن فوق نتوء بهضبة المقطم، أطلت القلعة على المدينة، وحافظت على هيبتها لعدة قرون كطرف حاكم بدون التورط في صراعاتها الاجتماعية، خلال هذه الفترة، اجتاحت المدينة السور نفسه، كما عبرت النيل، واقتحمت هضبة المقطم.. بالنسبة للحكام التاليين، لم تعد القاهرة قابلة للتحكم في عمرانها، وأصبح عليهم العيش معزولين في القلعة، مع محاولة التخطيط الداخلي بدلا من محاولة الترويض.
يبدو الأمر حتميا؛ نشوء سلطة جديدة يتبعه دوما تأسيس عاصمة يحتمي بها الحكام الجدد وحاشياتهم، بل إن هذه الحتمية تخطت غرائب وعجائب العصور الوسطى، في 1960 قرر الحكام العسكريين في البرازيل إنشاء عاصمة إدارية بدلا من ريو دي جانيرو، كانت المبررات هي تطوير منطقة الغرب الأوسط بعيدا عن الساحل، كانت أفكار التخطيط المركزي رائجة في وقتها، هكذا نشأت العاصمة برازيليا، عاصمة نظيفة ومنظمة تستحوذ على أعلى نصيب للفرد بالناتج الإجمالي المحلي في البرازيل، لكن رغم هذا، وخلال 55 سنة منذ إنشائها، لم يصل سكانها إلى 3 ملايين نسمة.
لذلك يبدو هروب نظام السيسي من القاهرة حتميا هو الآخر. تلك مدينة التهمت نظاما سابقا بالكامل خلال عدة ساعات، وبخلاف عدة أحياء قليلة تحمل بقايا تخطيط قديم، فإن العاصمة محاصرة بكتل سكانية مصمتة لا تحمل أدنى احترام للدولة التي يعجز جهازها الإداري عن إنقاذ نفسه. المسألة واضحة تماما من المنظور العسكري.
أم ظبي؛ اسم مقترح للعاصمة الجديدة في مسابقات أطلقها الإعلام، في إشارة إلى الدولة التي تعهدت بالتمويل والإنشاء، لكن الإشارة الأعمق هي لمحاولة استنساخ إحدى واحات ناطحات السحاب الصحراوية، بنمطها الاجتماعي الذي يعتمد على السيطرة المادية والمعنوية.
لكن المدن الحقيقية لا تنشأ بقرار دولة أو نظام؛ كانت الفسطاط عاصمة لما يزيد عن القرن ثم تحولت إلى غبار لدرجة أن أحد الأثريين كان مشروعه هو محاولة تحديد موقعها الأصلي، ومن الغبار قامت مدينة دمياط بعد تسويتها بالأرض تماما أثناء الحروب الصليبية، بينما ظلت مدينة السادات مجرد محاكاة ساخرة لعاصمة لم تكن، تبدو الواحات الإسمنتية في الخليج وكأنها تتحكم في خيوط تشد عواصم نشأت قبلها بمئات السنوات، لكنها مخوخة تماما في مواجهة حدث عارض مثل دولة داعش.
تنشأ المدن الحقيقية بسبب تفاعلات اجتماعية يمارسها أبناؤها على خط تاريخي مستمر ومتقطع، لا تنشأ بسبب عبقرية المكان، بل ربما تنشأ لأكثر الأمور تفاهة، مثل قبور الأجداد، أشجار وأبار، ثنيات اعتاد عليها المسافرون، أو حتى أحجار غشيمة حملها أهل البلد بالسخرة، لكنهم يشعرون بملكيتهم لها أكثر ممن أمروا باقتطاعها ورصها في أسوار.

تم نشر نص هذا المقال في موقع "زائد 18" بتاريخ 16 مارس 2015

No comments: