Pages

دليفري للبهوات

Thursday, August 11, 2011

النهاية

كل الحكايات الراقية تنتهي بالموت، وحتى النهايات السعيدة تصل لهذا ضمنيا. المهم أن يصل الجميع للنهاية.

رجع كريم والحواش للحارة، ولأول مرة يجدان الأحجار والأبواب والكلاب أقل حجما، والحارة نفسها صارت أضيق، وستزداد ضيقا في الأيام المقبلة حتى تصبح مثل نفق ضيق يؤدي إلى باطن كهف مظلم وقديم، ويبدو أن الطبيعة قررت دعم هذه الفكرة، فتوقفت الشمس عن سكب أشعتها داخل أخدود الحارة، وتحولت أرضيتها إلى وحل رطب وبقع ماء متبقي عن الغسيل والاستحمام، ولعل أحد من سكانها لم يلاحظ هذا التغير البيئي الآخير مع انشغالهم في تعلية البيوت وتقفيل الشرفات.

التغير يبدو أكثر سرعة على الكائنات البشرية، لقد استمرت مفاصل تاريخ الحارة في الاعتماد على الجنازات، تدعمها الفضائح وليس السيرة الطيبة للأموات، ولهذا لم يتوقف التاريخ طويلا عند موت الجدة الهادئ، ولا اختفاء خالة خضرة، وربما لم يعلم أحد أن خضرة تزوجت للمرة الأخيرة وتركت شابا أرملا بكاها بحرقة ولم يكن هذا بسبب أنها تركت له مبلغا محترما جمعته من بيع الشبت والبقدونس. لكن الكل يتذكر ميتة أم مصطفى حواش.

ككل بواجير الجاز، كان لا بد له من يوم ينفجر فيه بغرفتها الضيقة، أو أن الباجور سقط من على الطبلية وانسكب منه الجاز ثم جاءت النار. المهم أنها عجزت عن الهرب فحاولت أن تختبئ تحت الكنبة الوحيدة في غرفتها بعد أن أغرقتها ببعض الماء الذي يبدو أنه لم يكن كافيا لمواجهة الحريق، فماتت اختناقا ولم تمسسها نار، لكن ما جعلها ميتة لا تُنسى هو جوال السكر الذي كانت تخزنه في سحارة الكنبة من أجل بدء مشروعها الطموح لصناعة الهريسة والبسبوسة، وأذابت الحرارة 18 كيلوجراما فقط من السكر لأن موظف الجمعية التعاونية خدعها وهو يمرر لها سكر التموين المدعوم، وتحول السكر المنصهر إلى عسل سال على الجثة المختبئة، ويحلف من استخرجوا الجثة أنها كانت تمثالا مرمريا لطفلة نائمة في وضع جنيني. آه، استراحت أخيرا.. هكذا قالوا.

كالعادة، لم يشهد الحواش الأب هذه الأحداث، لكنه ظهر بعد أيام من الجنازة، وجلس صامتا يدخن على ذلك الحجر المريح الذي اعتادت خضرة أن تجلس عليه، ولعله شعر بعدم جدوى الطريق الذي حاول سلوكه وانسد بموت الزوجة، فألقى لولده بمفاتيح الدكان وكل ما كان في جيبه من مال، وذهب بلا رجعة.

ترك مصطفى المدرسة بطبيعة الحال، وانتقل بسلاسة إلى دكان العجلاتي كما عبر فجأة إلى عالم الرجال، وتزوج وظل في الحارة، ولم يعد هناك ما يمكن حكيه عنه.

عاش كريم ثلاثين عاما بعدها، وفي هذا قسوة كافية مع مرضه المزمن. وبدأت نهايته بأن استردته أمه نهائيا، ولم يعد إلى الحارة إلا في زيارات متباعدة للجد الذي امتد عمره للمائة وشهد أبناء أحفاده وهم في سن الشباب، وكاد يرى أحفاد أحفاده لولا قضاء الله الذي نفذ بهدوء وروية لم يقطعهما إلا جنازته التي أغلقت الحي ساعة كاملة بعد صلاة العصر، ودُفن في مقبرة الجمعية الخيرية التي أنفق ثلثي عمره عليها.

في الأعوام الأخيرة، تقابل كريم والحواش كثيرا في الحارة وأمام محطة القطار، وتقابلا مرتين أمام قسم الشرطة، بل أنهما تقابلا بالصدفة في أحد أزقة المدينة التي تقع في آخر العالم. في كل مرة كانا يهزان رأسيهما في احترام للأيام الماضية، والمجد الذي كان، ويستكمل أحدهما طريقه في ارتباك، بينما يتجمد الآخر للحظة في مكانه، ينظر للطريق الذي سلكه صاحبه، ثم ينحدر في طريقه الخاص.

No comments: