Pages

دليفري للبهوات

Thursday, December 23, 2010

الخائفون الكبار


انظر، هكذا تبدأ الحكاية: الكاتب الصغير يريد أن يحصل على اعتراف بموهبته، وهو شيء ليس له علاقة بمدى نجاحه، فلكي ينضم إلى تلك الجمعية السرية الوهمية التي تضم الكتاب، هناك بوابة يجب أن يمر بها، وضرائب يجب أن يسددها.
لا أعرف معنى أن تكون كاتبا كبيرا، الرجل الذي دفعني في كتفي لأترنح في مهنة الكتابة كان يقول ساخرا أن الكاتب الكبير هو الذي يكتب بقلم كبير. الحمد لله، عندما بدأت في المهنة، عملت مع مجموعة تفضل التعامل مع الشباب، ولم أصادف واحدا من أصحاب الأقلام الكبيرة.
عندما تدخل مهنة الصحافة، فإن مدى إجادتك للكتابة هي التي تفرض عليك طريقك، وكأننا في غرفة فرز قبل التوزيع على أسلحة الجيش: من يكتبون بصعوبة يحصلون على أجهزة تسجيل ويقضون حياتهم في الجري وراء الأخبار وإجراء الحوارات، من يستطيعون الكتابة عن أفكار الآخرين يصبحون رؤساء للذين يكتبون بصعوبة وعليهم تنظيف كتابتهم الركيكة، أما من يمتلكون أفكارهم الخاصة ويمكنهم التعبير عنها بالكتابة فيشاركون في العمل بتأفف، لكنهم يعرفون أنها مرحلة مؤقتة قبل الانتقال للكتابة الحرة التي لا يلتزمون فيها بالقيود المهنية للصحافة.
كتابة مقال تحتاج أن يكون لك تصورا خاصا للعالم من حولك، وكتابة قصة تعني أنك مصاب بدرجة من الغرور تجعلك تعتقد فعلا في هذا التصور. نعم، الغرور هو جزء أساسي من الكيمياء الغامضة التي تدفعنا للكتابة.
كنت أندهش لأن الكثير ممن فرزوا أنفسهم بالفئة الثالثة يكبتون هذا الغرور من أجل الانطواء تحت جناح أحد الكبار، سيغضب هذا الكلام كثيرين، لكننا نعرف كيف سار الأمر مع البعض: زيارة الأستاذ الكبير، استطلاع رأيه في المسائل المهمة، عرض كتابتك عليه، انتظار رأيه وتوجيهاته، ملاحظاته المنشغلة، هذا خطأ، الأمر ليس هكذا، في أيامنا كنا، أنتم، عليك، خطأ، خطأ، خطأ.. انظر لهذا.
لوهلة ينجح الأمر، قد يطلب منك المساعدة في بعض المهام، وقد يرشحك لعمل لدى آخرين، وستنضم لحاشيته، شرط أن تلتزم بأفكاره. هذه هي الضريبة، ولا أحد يتعلم بالمجان، لن يلزمك صراحة بأن تكون تلميذا للأبد، لكنك هكذا ستصبح، بعد أن تربط نفسك في شبكة خفية بالالتزام تجاه منظومة معينة من الأفكار، أستاذك نفسه لا يملك فكاكا منها.
وجدت نفسي بمشهد نموذجي أثناء حفل توقيع كتاب صديق قديم، ناشره هو كاتب قدم رواية واحدة قوية في التسعينات ولم يتوصل للنغمة الممتعة مرة أخرى، لكنه يستعد لأن يكون أحد الأساتذة الكبار في المنظومة الفكرية التي نتمي إليها. صديقي كان مؤدبا، وقناعاته الشخصية لا تختلف كثيرا عن تلك المنظومة التي تم تعميده بها، لكن رغم هذا كان المشهد وحشيا.
شعرت بالرعب وأنا أرى كيف يتم تلقينه وإجباره على اعتناق تلك الأفكار في طقوس لا تتيح له التفكير أو المناقشة أو الاختيار. كما لو أنه هناك خوف من تسلل عضو جديد لنادي الكتاب لا يؤمن بأن الستينات كانت أفضل وأن الوهابية تحاصرنا وأننا نعيش في أحط عصور الفن والثقافة.
هناك كتاب كبار، كبار فعلا ولا يستخدمون أقلاما ضخمة، لم ينتمي نجيب محفوظ لجيل معين، كان الرجل دائما هناك في كل الأجيال التي عاصرها، وحتى آخر أيامه كان يبحث متجردا عن الحقيقة، بينما يصر حوارييه على أن ستيناتهم حملت كل الإجابات المُثلى.
من السهل تعاطي الأفكار بالمحاقن، وخذة واحدة وينتهي كل شيء، وهذا لا يقارن بمعاناة أن تبحث وتقارن وتصارع الشك بداخلك في أن هناك شيء ما خطأ، وأن هناك شيء ما أفضل، لكنه غير مرئي.
كلنا خائفون، وخوفنا يدفعنا للاحتماء في ظل هؤلاء الذين لا يبدو عليهم الخوف، لكن ما يجب أن تخاف منه فعلا، هو أن تؤمن بأفكار معينة، لمجرد أنك أصبحت جزئا منها، وأنك مستفيد من هذا.
كبراؤنا كبار فعلا، ولكن في الخوف من التغيير، التغيير الذي يمثله كاتب تهتز يده وهو يقدم أوراق اعتماده للكبير، لكن خوفهم الأكبر من التغيير الذي لا يلاقونه ولا تستقر أوراقه في أدراج مكاتبهم.

3 comments:

Michel Hanna said...

two thumbs up

Anonymous said...

متمكن

Unknown said...

renvoyer l‘ascenseur
قريت التعبير ده ف رواية لكويليو..و كمان كان بيتكلم عن مصرف الخدمه
إنت فكرتني بالموضوع ده بمقالك..بس بعد التمصير