Pages

دليفري للبهوات

Monday, March 2, 2015

شاهد قبل الحذف: المشاهد الحقيقية لأوبريت مصر قرّيبة


ليل داخلي: مطار القاهرة
سائح خليجي في الخمسينات من عمره مع عائلته التي تتكون من زوجتين وأبناء وبنات مراهقين وخادمة آسيوية. بينما ينتظر الجميع بتأفف دورهم في طابور الجوازات، يتفحص السائح هاتفه المحمول ليرى رسالة من ابنه الأكبر الذي بعث له صورة سيلفي من تايلاند مع أصدقائه، ليخبره أنه سعيد وفي سلام.
تصل العائلة الضخمة لضابط الجوازات؛ نقيب شرطة في الثلاثينات غير مهندم، ياقة القميص مجعدة ولحيته نامية قليلا ويبدو عليه الإرهاق ويتعرق كثيرا في الزي الرسمي الشتوي. عندما يقع بصره على العائلة ترتسم ابتسامة واسعة على وجهه ويختم الجوازات مرحبا بهم.
تمر العائلة ويشير الضابط للمسافر التالي؛ شاب نحيف نعرف أنه فلسطيني من قطاع غزة عندما تركز اللقطة على جواز السفر الخاص به. الضابط يلقي بالجواز جانبا لأمين شرطة ويشير بقرف للفلسطيني أن يتبعه، حيث يتوجه به لغرفة مليئة بغزاويين آخرين يبدو عليهم الإرهاق بسبب الانتظار الطويل لترحيلهم إلى منفذ رفح.

ليل خارجي: خارج المطار
أكثر من شخص يدفعون عربات حقائب العائلة الخليجية، يتجمع حولهم أكثر من سائق يعرض توصيلهم. رب العائلة يمنح أحد حاملي الحقائب ورقة مالية مطوية، حامل الحقائب يفرك الورقة بالسبابة والإبهام ثم يشير للآخرين. بنفس الوقت يكتشف السائح أن حقائبه توزعت على 4 سيارات ليموزين رغما عنه. بدون تركيز يعطي للحامل ورقة أخرى، ثم يشير لعائلته أن يتوزعوا على السيارات، ويتجه هو للسيارة الأكثر فخامة لوحده.
سائق السيارة يستقبل رب العائلة بحفاوة بالغة، يفتح له باب السيارة بسعادة حقيقية، حتى أنه يرتدي قبعة الشوفير التي يكرهها. لا تدوم سعادته طويلا لأن أمين شرطة يشير له إشارة ذات مغزى، فيكرمش له ورقة نقدية في يده.

ليل خارجي: أمام فندق سياحي
عمال الفندق ينقلون الحقائب بينما السائح يحاسب السائقين. يبدو أنه فهم الأمر هذه المرة لأن المبلغ أسعدهم. لكنه يستبقي السائق الذي ركب معه ويتحدث معه بموضوع ما. من إيماءات السائق وغمزاته يبدو أنه فهم المطلوب.
ليل خارجي: شارع جامعة الدول العربية
السائق يتأمل الشارع بسعادة، بينما تنعكس الأضواء على زجاج نافذة السيارة. عندما تتوقف السيارة في إشارة مرور، يهجم عدة صبية وفتيات على الشباك ويحاولون التسول، لكنه يشير لهم بقرف أن ينصرفوا، يشتمه المتسولون ويشيرون له بإشارات بذيئة، وتنطلق السيارة.

ليل خارجي: زقاق بين عمارتين في وسط البلد
فتاة لا يزيد عمها عن 14 سنة بجلباب أسود مطرز ضيق على جسدها، تقوم بضبط وضع الطرحة فوق رأسها لكي تخفي أذنها المحروقة بفعل الصودا الكاوية، إضافة إلى آثار عدة جروح بجانب وجهها. ترفع مشد الصدر لأعلى لكي تحصل على تضاريس أكبر من عمرها، تتناول حبة ترامادول وتضع أحمر شفاه داكن وتتناول سلة مليئة بالورود.

ليل خارجي: ميدان طلعت حرب
على الرصيف وقفة صامتة تحمل الشموع وصور الشهداء بينما عدد من المواطنين الشرفاء يشتمونهم، ثم يهاجمهم رجال الشرطة الملثمين ويطلقون النار عليهم لتسقط إحدى الفتيات مصابة. في نهر الشارع موكب موتسيكلات بموسيقى مهرجانات يمر من كل هذا بلا اكتراث وكأن لا شيء يحدث.

ليل خارجي: كوبري قصر النيل
موكب الموتسيكلات يطارد فتاة للتحرش بها، تهرب الفتاة بأن تلقي بنفسها في النيل. على الرصيف الآخر يفشل السائح في الاستمتاع بالوقفة على الكوبري بسبب الباعة الذين يحيطون به. تأتي بائعة الورد وتمنحه وردة ونظرة ذات معنى. يبتسم لها السائح ويتبادل معها الحديث ثم يسير معها إلى نهاية الكوبري.

ليل خارجي: مركب نيلي
بائعة الورد تعيد ضبط وضع الطرحة ومشد الصدر وتتناول المزيد من الترامادول، وتمنح حبة للمراكبي الذي يذهب لمؤخرة القارب، بينما مساعده يحتفي بالسائح ويقدم له الشيشة ويستخدم إيماءات مليئة بالغمز. تبدأ بائعة الورد بالرقص، لكن رقصها السيء يفضح عمرها أكثر.
مع مرور الوقت، يبدو الإرهاق على الفتاة، تتعاطى المزيد من الترامادول، بينما الزبون يبدو شاردا وهو يتأمل الشاطئ ومركب آخر.

ليل خارجي: فرح في مركب نيلي
العروسان منهمكان في الرقص وغارقان في العرق ويلوحان لمركب السائح عندما يمر بجوارهما. صديق للعريس يطلق صواريخ في الهواء تحية للسائح لكن أحد الصواريخ ينفجر في يده وتنتهي فقرة الرقص.
يتابعهم السائح لوهلة ثم ينتقل ببصره إلى الشاطئ، حيث أضواء ملهى فاخر.

ليل خارجي: ملهى ليلي على شاطئ النيل
مطربة شهيرة تحتاج أن تبتعد عن صخب الملهى فتتجه إلى الشاطئ وتستند على السور الذي يفصلها عن الماء لتستنشق بعض الهواء. تغمض عينيها باستمتاع للحظات ثم تفيق على صفافير شباب في مركب نيلي يمر قريبا منها، وتكتشف أن الفستان السواريه سمح لهم بمشاهدة ما لا يجب لأمثالهم رؤيته. تنصرف غاضبة ويلحق بها البودي جارد الخاص بها، أمام الملهى تتأخر سيارتها قليلا.
مواطن مصري يشاهد المطربة فيشير لها بسعادة. المطربة الغاضبة تشير للبودي جارد فيهاجم المواطن ويسقطه أرضا، ثم تأتي المطربة وتشارك في ركله بنفسها. تظهر زوجة المواطن وتلقي بجسدها عليه لتحميه من الضرب، ثم تستجدي المطربة أن توقف التنكيل به، لكنها لا تتوقف. يتدخل بعض المارة، لكن البودي جارد يشهر سلاحه ويطلق النار في الهواء فيبتعد الجميع بخوف.
المواطن وجهه متعجن من كثرة الضرب وزوجته تحتضنه برعب.

ليل داخلي: كباريه
السائح يبدو عليه عدم الاكتراث وهم ينثر أوراق المال فوق رأس راقصة/مغنية، وبينما هي تقوم بالتحية الواجبة، تتمايل عدة فتيات بدينات حولهما برقص سيء. يدس الورقة الأخيرة في صدرها، تتعطل الراقصة/المغنية للحظة ثم تستكمل التحية.
يعود السائح لمائدته الممتلئة بالطعام والشراب، وحوله عدة فتيات يتمايلن ببطء مع الموسيقى، ويتناولن المزيد من الترامادول. حول المائدة أكثر من شخص يحتفون به ويواصلون الإيماءات وغمزات تفهم طلباته.

نهار خارجي: شارع تجاري
إحدى زوجات السائح الخليجي، وصدرها مثقل بالذهب، تتفرج على المحلات بملل بينما يحاول أكثر من شاب اجتذابها لدخول المحلات التي يعملون بها. تهرب منهم بعبور الشارع لكن يقترب منها متوسيكل وينزع راكبه من رقبتها قلادة ثقيلة ويفر هاربا. تقع على الأرض ويتجمع حولها المارة ويحاولون طمأنتها، في الخلفية رجل شرطة يلمح ما يحدث، وينظر إلى الموتوسيكل الذي ابتعد كثيرا، ثم يدير وجهه ويتظاهر بأنه لم يرى الحادثة، يستمر في طريقه ويسجل أرقام السيارات المركونة في صف مخالف.

نهار داخلي: مطعم وجبات سريعة شهير
الزوجة الثانية مع أولادها يتناولون الطعام، ثم تبصق الطعام بقرف وتستدعي أحد العاملين بالمحل وتتحدث معه بعصبية بينما يرد هو ببرود، يأتي مدير الفرع ويتعامل هو الآخر ببرود فتنصرف غاضبة مع عائلتها.

نهار خارجي: منطقة الأهرامات السياحية
الزوجة الثانية في ليموزين قبل الوصول لهضبة الأهرامات، أفرادا كثيرين يحيطون بالسيارة ويمنعونها من المرور، يريدون تأجير وبيع أشياء للركاب. بصعوبة يتمكن السائق من المرور منهم والوصول إلى هضبة الأهرامات.
تمر الأسرة على بوبات إلكترونية لا تتوقف عن الزئير لكن لا أحد يستوقفهم للتفتيش، مع ابتسامات مستمرة من رجال الشرطة. بمجرد المرور من البوابة تحيط بهم الزفة المعتادة. بائع يمنحها هدية تافهة؛ جعران فرعوني، تفرح الأم بالهدية، ثم تكتشف أن قبولها للهدية يستتبعه أن يتولى إرشادهم إجباريا في جولة سياحية، تستسلم له بينما يغمز لسائس كي يأتي لهم بكارتة.
الخادمة تنتفض فجأة وتتلفت حولها برعب.. يبدو أن أحدهم قام بفعل شيء ما لها.
أحد الأطفال يريد التبول ويقفز في مكانه بإلحاح، تتلفت الأم يمينا ويسارا فلا تجد مبنى يصل لأن يكون حماما، الدليل يضحك ويشير حوله لأي مكان. يذهب ليتبول الطفل خلف كتلة صخور عليها نقوش فرعونية.

نهار داخلي: بيت ريفي
فتاة صغيرة لا يزيد عمرها عن 12 سنة تدخل وتضع أكواب الشربات، ينظر لها السائح ويتناول الكوب ولكنه لا يتذوقه ويضعه على المائدة، بينما ينهمك والدها ورجل آخر إعداد الأوراق بحماس، وبالقرب منهم سائق الليموزين.
الجميع سعداء.


================
اقتراحات لشريط الصوت: يقوم عدد من المطربين العرب والمصريين بتقديم أغنيات عن الأخوة وكرم المصريين ودفء مشاعرهم.

Tuesday, December 30, 2014

الجثث لم تمنعنا من الاحتفال


تقول النشرة الجوية أن الحرارة في القاهرة ستهبط في نهاية الليلة إلى 9 درجات مئوية. البرودة تذكرني بليلة تحمل نفس التاريخ منذ منذ 9 سنوات (30 ديسمبر 2005)، عندما حاصرت قوات الشرطة مقر اعتصام لاجئين سودانيين في حديقة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، ولعدة ساعات أغرقتهم بالمياه في البرد القارس، قبل أن تقوم قوات الأمن المركزي باقتحام المخيم البدائي بآلاف من الجنود.
بحسب الحكومة المصرية، فإن التدافع والفوضى أثناء عملية الفض، أديا إلى وفاة 10 لاجئين، بينما قالت وكالة أنباء رويتر أن سيارات الإسعاف نقلت جثثا بأكثر من ضعف هذا الرقم، ثم تراجعت وزارة الداخلية المصرية وقالت أن الرقم كان 20 ضحية، وأعلنت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن مقتل 25 سودانيا في تلك الليلة. كان من الصعب إحصاء القتلى والمصابين، الجثث كانت ملقاة على قارعة الشارع التجاري الأهم بالمنطقة، وآخرون ماتوا لعدم تلقي العلاج في المعتقلات. يقدر الناجون من الفض عدد القتلى بأكثر من هذا بكثير.
لا يصعب علينا الآن استعادة كيف جرت الأمور وقتها: فبعد تواطؤ بين المفوضية والحكومة المصرية، أخذت الأخيرة قرارا بالفض، وسبق هذا تمهيد إعلامي معتاد بأن اللاجئين يمارسون الجنس ويعاقرون الخمور في حديقة المسجد الشهير، ففي النهاية هم مجرد أفارقة بدائيين، كما أنهم أيضا مسيحيين، ليلة الفض كان المخيم محاصرا بأكثر من 6 آلاف جندي، وهو رقم يفوق عدد المعتصمين بضعفين أو ثلاثة، وعندما بدأ الاقتحام لم يسجل الشهود مقاومة تذكر من المعتصمين، كان هناك الكثير من النساء والأطفال وحتى حديثي الولادة، لم تكن الخطة هي تشتيت تلك المجموعة البائسة، بل كانت ضربهم بالهراوات ثم إلقاء القبض عليهم.
لم تحدث هذه المذبحة في أعماق السجون، ولا في الصحراء الموحشة، بل كانت في واحد من أهم شوارع المدينة، تحت أعين السكان الذين تابعوا الفض بفضول واستمتاع. في النهاية، لقد تخلصوا من هؤلاء الأفارقة المنحلين، ولم يكن للكنائس المصرية صوت يُذكر. بخلاف بعض المنظمات الحقوقية، لم يعترض أحد على ما جرى، الحقيقة أن مجتمع المدينة كان مستريحا للمجزرة، حتى مع إدراك حجم الكارثة.
يبدو المشهد مألوفا جدا.
==============
لم تمر شهور كثيرة بعد هذه الكارثة، ففي الساعات الأولى من يوم 2 فبراير 2006، غرقت العبارة "السلام 98" أمام سواحل الغردقة، وعلى متنها أكثر من 1300 راكب، معظمهم مصريين عائدين من رحلة كفاح أو حج في السعودية.
كانت العبارة مملوكة لعضو مجلس الشورى "ممدوح إسماعيل" الذي فر هاربا لخارج مصر قبل بدء التحقيق معه بتواطؤ واضح من السلطات، ورغم العيوب الفنية الواضحة بالعبارة، وتفاصيل الفساد المحيطة بها، فقد تم توصيف التهمة ضده كجنحة، ثم حصل على البراءة من محكمة قضائية مصرية في عام 2008، لكنه تلقى حكما بالسجن لسبع سنوات في الاسئناف، ليقضي 5 سنوات هاربا في الخارج، قبل أن يسقط عنه الحكم تلقائيا حسب القانون المصري.
وبحسب لجنة تقصي الحقائق التي جرى تشكيلها، لم تتدخل القوات البحرية المصرية أثناء غرق العبارة بدعوى أن الحادث كان خارج نطاق عملها، رغم أن المعاهدات الدولية تلزمها بهذا، ولاحقا شاركت قطع بحرية وجوية أجنبية في عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث، ليصل الأمر إلى وزير الدفاع "محمد حسين طنطاوي" الذي كتم القضية بقوله: القوات المسلحة لا تُسئل ولا يُحقق معها، القوات المسلحة فوق المساءلة وفوق التحقيق، هي تحمي الشرعية ولا يؤتى بسيرتها حتى في مجلس الشعب.
تتحدث أدبيات هذا الزمن عن انعدام حس الرئيس مبارك الذي تجاهل كارثة راح ضحيتها المئات مواطنيه، ووجد لديه طاقة لتشجيع المنتخب المصري لكرة القدم في ستاد القاهرة بمباراة نهائي كأس الأمم الإفريقية، حيث بلغت الفرحة بزوجته أن منحته قبلة تهنئة على الهواء مباشرة بعد فوز منتخبنا. كان هذا بعد الكارثة بأسبوع واحد، لكن الحقيقة أنه بعد ساعات قليلة من غرق العبارة، وبينما كانت الأمواج تتلاعب بجثث 1033 مواطنا مصريا وأسماك القرش تتلقى وليمة العمر، كان آلاف آخرين يحتشدون في نفس الملعب من أجل مؤازة الفريق في مباراة أقل أهمية، بينما ملايين آخرون يتابعون المباراة عبر التليفزيون، وبعدها بأربعة أيام كانت هناك مباراة أخرى، ونصر آخر، حتى المباراة الكبرى في نهاية الأسبوع.
1033 جثة لم تمنعنا من الاحتفال، ولماذا لا؟
==============
في نفس العام تصادم قطاران وكانت حصيلة القتلى 51 حسب أقل تصريح حكومي (الأرقام تصل إلى 80)، وفي العام التالي تصادم آخر راح ضحيته 58 مواطنا، ثم 30 آخرين في 2009.
تبدو الأرقام مفرحة مقارنة مع كارثة قطار الصعيد في 2002، والتي راح ضحيتها 350 مواطنا في أقل تقدير رسمي، حيث اندلع حريق بالقطار الذي استمر منطلقا لمسافة 9 كيلومترات، وحاول بعض ركابه القفز مخاطرين بحياتهم خارجه، بينما تفحم آخرون بداخله والتصقت جثثهم بنوافذه أثناء محاولة التقاط آخر أنفاسهم.
هل يدفع المصريون ثمن الفساد.. أم ثمن قبولهم به؟
==============
ولقد قامت الثورة في 25 يناير 2011، وخلال أيامها الأولى قُتل 1075 شخصا، معظمهم قُتل بأيدي رجال الشرطة وتحت سمع وبصر الآلاف، في الميادين المفتوحة وأمام أقسام الشرطة، لكن القضاء المصري استقر إلى تبرئة كل المتهمين، بداية من أمين شرطة قسم الزاوية الحمراء، وحتى مبارك شخصيا. لم يكن في موت هؤلاء أي مدعاة لاستهجان معظم المجتمع، ظل الكثيرون جدا يؤمنون بأحقية الدولة في قتل مواطنيها.
لاحقا وفي نفس العام، يستمر القتل في مواقع عديدة، لكن تتفرد مذبحة ماسبيرو بأنها كانت نسخة طبق الأصل من فض اعتصام اللاجئين السودانيين: بداية من التحريض الطائفي ضد مظاهرة للأقباط، ثم مدرعات الجيش تطلق النار عليهم وتفرمهم تحت عجلاتها، التليفزيون الرسمي يستدعي المواطنين الشرفاء لحماية قواتهم المسلحة وبعض مشايخ السلفية يلبون النداء.. لتكون النتيجة هي ملايين المواطنين المؤيدين للمذبحة.
أجرى العسكر تحقيقات شكلية أدت إلى تبرئة كل المشاركين بالمذبحة، وفي العام التالي استقبلت الكنيسة وفد المجلس العسكري بترحاب رغم اعتراض بعض الأقباط، ومؤخرا اعتبرها البابا "تواضروس" مجرد حادثة، وجدد ثقته في المؤسسة القضائية، ويحظى هذا بتأييد الكثير من شعب الكنيسة. بعض من ارتكبوا المذبحة هم الآن أبطال قوميين في نظر المصريين أياً كانت ديانتهم.
ثم سيدفع الإسلاميون ثمن تأييدهم السابق فيما بين يوليو وأغسطس 2014 بأكثر من ألف قتيل، بنفس آليات التمهيد للوحشية، مرة أخرى بتوافق مجتمعي نادر، بل مطالبات بتوسيع القتل والقمع، وقبلهم وبعدهم سيدفع الشباب الثائر نصيبهم من الدماء، بينما أصبحت الرواية الخيالية للدولة أكثر تماسكاً، مدعومة بأحكام قضائية وتقارير استخباراتية ودعم شعبي، وحتى بإلقاء التهمة على الضحايا أنفسهم، أو اتهام طرف ثالث تتغير هويته حسب متطلبات المذبحة ومزاج الجمهور.

Thursday, December 4, 2014

أمي!!.. التي قتلت المتظاهرين



في باب الذكريات الإذاعية القديمة، كان يوجد برنامج يُذاع صباح أيام جمعة بعنوان "من الجاني؟"؛ بموسيقى فخيمة لا تناسب أجواء تراخي يوم العطلة، وبموضوع يقدم جريمة غامضة يتم عرضها صوتياً كأنها قراءة لإحدى قصص "أجاثا كريستي"، لتنتهي الحلقة دائماً بسؤال عن مرتكب الجريمة؛ من الجاني؟ ثم الإعلان عن جوائز لمن يتمكن من حل لغز الجريمة، وهي جوائز لم تكن تخرج عن شرائط موسيقية من إنتاج "شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات".
كطفل غير بريء، لم أكن أنشغل كثيرا بتفصيلات الجريمة وحبكتها، كنت أنصت أكثر لأداء الممثلين ذوي الخلفيات المسرحية التي كانت تحتم عليهم كشف السر بطريقة ضمنية: فالممثل الذي يؤدي دور الجاني كان يضيف زخرفة معينة تجعلك تعرف إنه هو صاحب الجريمة.. كلمة ممطوطة النهاية، صوت رخيم في غير محله، أو حتى محاولة فاشلة لكي يبدو ضعيفا أو تافها.
لم أكن أبداً بحاجة للغرق في حبكة الحلقة لكي أعرف الجاني.
============

لغوياً، نستخدم صيغة السؤال من أجل الحصول على إجابات، ولكن مغارة اللغة الثرية تحمل استخدمات أخرى، مثل التهكم، الاستنكار.. وتعمد إخفاء الحقيقة أيضا.
بعد ساعات من إصدار الحكم بالبراءة على مبارك والعادلي ومعاونيه، كشف اثنان من الصحفيين عن وجود توجيه سيادي للصحافة بأن يكون موضوعها في اليوم التالي هو"مبارك براءة.. من فعلها إذن؟"، وبشكل شخصي، كشف صحفي ثالث عن نفس التوجيه لجريدته. قبل نهاية الليلة، صدرت جريدة "التحرير" بالعنوان المنتظر: براءة فرعون وهامان.. إذن دم شهداء الثورة في رقبة من؟

"أمي!!!".. هكذا أجاب أحد مستخدمي فيسبوك عن السؤال، مستخدماً إجابة كلاسيكية في العامية المصرية أمام أي سؤال عبثي نعرف إجابته، وأرفق هذا بصورة مدرعة تطارد المتظاهرين، ومن فوقها ضابط شرطة يُطلق سلاحه الناري عليهم، مع إضافة تعليق آخر: أمي كانت سايقة المدرعة ودهست المتظاهرين وضربتهم بالرصاص!

 
بالنسبة لهذا المستخدم، لم يكن السؤال يتحمل رداً غير هذا، لكن هذا لم يمنع صحف اليوم التالي من الصدور حاملة نفس العنوان.
يمكن استبعاد أن الصحف تقيم مسابقة على غرار البرنامج الإذاعي، كما أن الصحف تطرح السؤال بجدية من كان غائبا عن البلاد وعاد ليكتشف الحدث منذ بدايته، مما دفع "أحمد خير الدين" مذيع نشرة "ON TV" للإجابة عن السؤال: يراد لنا الآن أن نردد هذا السؤال الأبله الذي يقول “من القاتل؟”، وكأننا لم نعرفه ولم نره!!

الأمر بسيط؛ السؤال غرضه هو "ادعاء عدم المعرفة"، تمهيدا لـ"إعادة سرد حدث قتل المتظاهرين"، هذه المرة سيكون القتلة هم أفراد من حماس والإخوان، تسللوا من على الحدود حاملين أسلحتهم الخفية عبر مئات الكيلومترات، بدون لفت أنظار قوات الجيش والداخلية والمخابرات والمؤسسات السيادية التي لا تنتهي، ليندسوا بين المتظاهرين، في التحرير وباقي الميادين والمحافظات، حتى أنهم وصلوا إلى ميدان المطرية كنوع من التجويد.. ثم مارسوا القتل في المتظاهرين بالمئات، لدرجة أنهم لم يميزوا بين القتيل الإخواني وغيره، ثم تركوا المتظاهرين يتخيلون حكاية أن الشرطة هي من قتلت رفاقهم.
هذا، وقد ساعدتهم "أمي" في القتل، وكان يمكنها إخفاء الجريمة تماماً، لولا أنها تُوفت قبلها بأكثر من 3 سنوات.
============

يقولون إن الإعلام بارع في خلق الأساطير، وإن براعته تبدو كالسحر الذي يمكنه إيهامك بتصور ما، ثم العودة لمسح هذا التصور.. هل تتصور أن هذا ممكن؟
سأبدأ بنفسي وأراجع ما أعرفه: عصر يوم 28 يناير، كنت في الصف الرابع أو الخامس من هؤلاء الذين صلّوا العصر على كوبري قصر النيل، قبلها بدقائق كنت أقف في سلسلة بشرية لمنع أي أحد من الاعتداء على مجموعة جنود تُركوا وحدهم عند باب نادي القاهرة، وبعد الصلاة لم أصدق عيناي عندما شاهدت ضابط بأعلى مدرعة يُطلق قنابل الغاز من سلاحه في مستوى رؤوس المتظاهرين، وبعد دقائق سقطت الصفوف الأولى وشاهدت المتظاهرين يحملون المصابين.. ثم لم أشاهد شيئاً لأني أصبت بطلقات الخرطوش في وجهي، كل ما سمعته كان المزيد من الطلقات وصرخات الألم الخوف، وكان هناك من يصرخ بأن أحدهم مُصاب في وجهه، وأعتقد أنه كان يتحدث عني.
لقد زالت آثار الخرطوش من وجهي الآن، وتبدو الذكرى قديمة بعد أحداث أكثر دموية مررنا بها، لدرجة أني أفكر في التساؤل حول "من فعلها؟" كما تنصحنا الصحف.