Pages

دليفري للبهوات

Tuesday, January 8, 2019

مغازلة الصفر


تجاوزت انشغاله بالتقليب في فنجان الشاي الذي لم يضع به سكر، عبرت فراغ المائدة بينهما لتمسك به بالجرم المشهود:
-          هذه الكهرباء اللطيفة كانت تتناثر منك في كل مرة أفاجئك عندما أفتح الباب، لا يمكنك إنكارها، كنت أراها كشبح مراهق يتقافز من داخلك عندما يراني.. ثم
تراجعت لحافة المائدة، وابتلعت لعابها لتكمل:
-          ثم سرعان ما يكبله ذلك العجوز الصامت؛ تدير رأسك ببطء، وكأنك لم تميز خطواتي قبل كل شيء، تنظر لي بهذه الزاوية لكي تبدو أكبر وأكبر.. أي خدمة يا آنسة!!
قاطعها بدون أن يرفع تركيزه عن الفنجان:
-          لم أقل لكِ أبداً يا آنسة.
-          حسناً.. كانت تبدو هكذا، قبلها كنت تعجن في أي أحاديث تافهة صغيرة لكي يستمر الأمر بيننا أطول وأطول..
تشنجت الملعقة بين أصابعه لجزء من الثانية، لم يرفع عينه ليرى إذا ما كانت قد لاحظت، استمر خط تساؤل بداخله عن هذا بينما يضع مكعبات الحقيقة بينهما:
-          كانت أحاديث مملة أيضاً، أعترف، كنت فقط أريدك أن تظلي هناك وكأن حياتي كلها تتلخص في تلك الدقائق التي أكون فيها بجوارك.. ثم أدركت أنها ستنتهي، من المستحيل أن تدوم أكثر.
رفع عينيه للنافذة الزجاجية التي تحجب زحام الشارع وغباره، أضاف لنفسه خط تساؤل جديد عن كيف يبدو العالم بكل هذه الضجة الكارثية في الخارج بينما يعتصره هذا الهدوء على الناحية الأخرى من الزجاج، ويدفعه نحو المزيد من الصراحة:
-          هذا العجوز كان يضع ثقله كله فوق شبح المراهق، يقول له 'إنها راحلة وستتركنا على كل حال!'، يقنعه أن يحتفظ في ذاكرته بلقطات قريبة عالية الوضوح لكِ عندما تقولين شيئاً مرحاً، مراهق ساذج، بينما يستولي العجوز وحده على متعة تواجده على بعد سنتيمترات منكِ، ثم سرعان ما يفكر بأن السنتيمترات مثل الأمتار أو أي مسافة أخرى.. في النهاية يشعر بالامتنان لمجرد وجودك في الكون معه حتى لو عشتِ في زمن وبُعد آخرين.
خط آخر من التساؤل عن وقع كلماته عليها، ثم خط رابع هجين عن احتمالات إذا كانت تخترق وجه البوكر بعد ملاحظتها لتشنج الملعقة، ليستمر تداعي مصفوفات الاحتمالات التي شغلت راماته عن ملاحظة سهلة جداً لأصابعها المتحفزة على طرف المائدة.
-          شيئاً فشيئاً تكتسبين قيمة مجردة وفريدة في عالمه، مثل اكتشاف قيمة الصفر التي سلبت قلوب الرياضيين، غير موجود وهو مركز كل إحداثيات.. مجرد تأمل الجمال يغنينا عن امتلاكه أو حتى محاولة الاقتراب منه، مثل ورقة تتراقص في الرياح وقد تقترب أو تطير عالياً وتغادر الشارع والمدينة وربما العالم كله وتصل لنهاية كل شيء..
عرف أن عليه التوقف عن التقليب في هذه اللحظة، أصبح الأمر مسرحياً وسخيفاً كأنه بمشهد شتوي بارد في مشروع تخرج كلاسيكي بمعهد السينما، وفكر أن هذه الوقفة المسرحية أصبحت أيضاً مطلوبة وكأنه انتهى من الحديث للكاميرا والآن عليه أن يلتفت لها وبحوزته جملة مؤثرة:
-          بعالمه هذا قد يستمر للأبد في الاستمتاع بتأمل أشياء مثل ضجيج احتكاك خصلة شعرك بسطح المائدة وأنت تعبرينها منذ قليل إياباً وذهاباً.
الآن ترجع لمسند مقعدها، تميل رأسها وتبتسم، وتلتمع عيناها وهو تنظر جانباً لتلتقط أنفاسها، بنفس الطريقة التي تصهر قضبان يورانيوم أعصابه في كل مرة.. أو هكذا ظن، لأنه عندما رفع عينيه أخيراً لها، كانت تنظر في الفراغ بينهما بغضب.

No comments: