Pages

دليفري للبهوات

Thursday, November 10, 2011

الحياة ليست ديموقراطية يا غبي

كان صاحبي عبقريا عندما قال إن أسهل طريقة لتفريغ أي شيء من معناه، هو أن تطلق عليه اسما ما، ثم تسهب في استخدام الاسم حتى يضل المعنى طريقه لأصله الأول. كنت أرى أن أول ضربة تلقتها الثورة المصرية عندما حصلت على لقب "ثورة"، الضربة الثانية كانت باستثمار المصدر اللغوي لاختلاق لفظ "ثورجي"، وكأن الثورة مهنة ذات دوام من التاسعة إلى الخامسة.
تذكرت هذا عندما رأيت لفظ "ثورجية" في تعليق لصديق كاتب صحفي يرى أننا انشغلنا بقتال المجلس العسكري وتركنا الشارع للأخوان، بينما قال لي نجم صحفي لامع إننا لم نترك بديلا للناس عندما هاجمنا العسكر على صفحات المدونات الإلكترونية (يا للهول).
الحقيقة أنني لست ثورجيا (وإن كان مظهري يوحي بهذا لأني لا أستمتع بحلاقة شعري ولحيتي)، أعمل في وظيفتين وأحيانا ثلاثة، زوج وأب لطفلين أحدهما كان يعتلي كتفي منذ لحظات، والمفاجأة أنني لا أعرف واحدا من الثورجية المشاهير، وكل من تخطوا الثلاثين في عائلتي كانوا ضد "الثورة" من قبل حتى أن يصبح اسمها كذلك، ويوم موقعة الجمل كنت مرعوبا في منزلي وأفكر أنه لو انتصرت قوات المماليك فمن الأفضل أن أهاجر بأسرتي وأتبول على جواز السفر المصري.
في يوم 28 يناير لم يبدو أحدنا ثورجيا، خرجت في ذلك الصباح مع مدير بشركة أدوية كبيرة، واثنين من زملاء الدراسة لا أتذكر عنهما إلا مطاردة البنات وكسر قلوبهن. في العباسية تظاهر شقيقي الذي فكر منذ سنتين في الانضمام للحزب الوطني لأنه لم يكن هناك شيء آخر يمكن فعله، وفي مدينة نصر خرج 3 من أصدقائي رغم عجزي عن إقناعهم في الليلة السابقة، اثنان منهما كذبا على والدتهما في هذا اليوم.
أتذكر أنني فوجئت عندما قال لي الكاتب الصحفي "أنتم"، حاولت في البداية شرح أنني مثل الجنود المرتزقة (لا تأخذها لفظيا، أنا أكره كنتاكي من قبل الثورة وأرى أنه من الفظاظة أن آكل الدجاج المقلي خارج البيت)، بمعنى أنني أحدد الجهة التي أنحاز لها بناء على معطيات الموقف ذاته، لست سياسيا ولا أتناول الآيديولوجيا في الصباح، ولا أتحكم إلا بجثتي وحدها، فقط أقوم بواجبي ولا أتحدث باسم أحد، وإن كان لا يضايقني أحيانا أن يتحدث البعض باسمي عند إثارة الحس الجمعي.
ضايقتني "أنتم" لأنها ستضعني ضمن فئة محددة، حيث سأكون باغيا لو نصرت فئتي على الدوام، ثم أصبح خائنا لو خالفتها يوما. لكني لم أتضايق كثيرا لأن أحدهم أنعم عليّ بصفة الثورة وضمني لنجومها، ففي الحقيقة أنا معجب بهؤلاء الذين ثبت إيمانهم بأنفسهم وبرفاقهم يوم اجتاحات الخيول الميدان وانهال عليهم الرصاص.
الحقيقة أيضا أنني لست منزعجا من فكرة عزل الثوار عن الشعب "الثائر"، لقد "كنا" هكذا دائما طوال الوقت. أتذكر قريبي الذي قال منذ سنوات إن الناشطات ذهبن إلى سلم نقابة لأنهن يستمتعن بالتحرش الجنسي، وأتذكر أن أعضاء حركة كفاية قضوا سنوات عديدة على كل أنواع السلالم ولم يدفع هذا المواطنين الشرفاء للانضمام لهم (الحق يٌقال: أحيانا كانوا ينظرون باستغراب ثم يسألون عن الساعة وينصرفون)، وفي جمعة الغضب كنا نشير لسكان الشرفات "يا أهالينا انضموا لينا" فأشار أحدهم إلى ابنته الصغيرة بمعنى أنه لن ينزل خوفا على مستقبلها (على أساس أن ابني هو ذكر أميبا وحيد الخلية بلا مستقبل)، لقد نزل منهم عشرات الآلاف يومها (بفضل السياسة الاقتصادية الحكيمة للنظام)، ثم اشترك ملايين آخرين عندما دقت ساعة العمل (والبعض شارك قبل ساعة انتهاء العمل بدقائق). لكن الحقيقة المجردة أن 3 أمثال تلك الملايين كانوا متفرجين أو كارهين لنا.. أو بكل بساطة داعمين للنظام الذي ندعو لإسقاطه لكنهم لم يكونوا محبين له جدا لدرجة قتلنا.
ليس الهدف من هذا أن أذكركم بأن معظم الشعب ابتلع الثورة على مضض عندما بان لهم عناد الثوار وأصبح انتصارهم وشيكا (ها أنا أستخدم الكلمة التي عارضتها في البداية وهذه هي ضريبة الكلام)، بل أذكركم بأننا نزلنا يومها ونحن لا نتمتع بأي فكرة عن العودة سالمين أو ناجحين، ولحسن الحظ لم يطالبنا أحد بأن نلتزم برأي أغلبية الشعب الذي انتخب نوابه قبلها بثلاثة شهور فقط (حتى الآن لم يحاول أحد أن يُبرز دليل تزوير وفساد الانتخابات ربما للمداراة على فساد آخر).. أو ربما كنا أقمنا استفتائا برعاية الحزب الوطني: هل توافق على القيام بثورة؟ نعم/ لا.
والآن يستمتع البعض بتذكيرنا بأننا فقدنا دعم الشارع وأن المظاهرات أصبحت مزعجة للمواطنين الشرفاء. الحقيقة أنني لم أشعر أبدا بدعم هذا الشارع، لم يستغرق الأمر إلا جهد يسير لإقناع الشارع بأن حركة "6 أبريل" تتلقى تمويل ماسوني ودورات في الخيانة من الحكومة الصربية وأن أعضائها يمتلكون أسلحة أوتوماتيكية بالإضافة لأسلحتهم اليدوية التي يستخدمونها في شقة الدقي، وكذلك أصبحت كل منظمات المجتمع المدني عميلة، وصار علاء عبد الفتاح ملحدا زنديقا ومجاهرا بالإفطار في رمضان، وتضخمت ثروة أسماء محفوظ حتى أنها ستشتري جائزة نوبل بأموالها.
لقد أنفقت مئات الساعات في مناقشة كارهي الثورة، ولم أفلح أبدا في تغيير وجهة دماغ شخص واحد منهم (أحيانا يهزون رؤوسهم كمن تعرض لصدمة ثم يعود لمربع "الثورة وقفت حالنا")، كما أنفق هؤلاء آلاف الساعات في مناقشتي ولم تتغير وجهة نظري في أننا متجهين للأفضل، والحائرون حائرون، تأخذهم كلمة من هنا ومن هناك، لكن أي من أعضاء المعسكرين لم يغير مكانه.. لقد خلقنا الله ثوارا ومواطنين شرفاء، هذه هي المعادلة البسيطة التي يجب أن نتعامل معها، فالناس يتناولون نفس المعلومات بالطريقة التي تخدم قناعاتهم الأصلية (مثال: عندما سمعت بتهمة علاء ضحكت ساخرا من أعماق قلبي لكن آخرون يرونها تهمة مناسبة لزنديق مثله).
يبدو هذا للوهلة الأولى تعاليا وتكبرا، وهنا سأعود لمنطقي الأول، فلا ترهقني المسميات لأن كل شخص في النهاية سيصدق الأمر على طريقته، ثم يمكنهم معاقبتنا عبر صندوق الانتخابات إذا أرادوا، وهو ترف كثير لا نستحقه، لأن الحياة ليست ديموقراطية يا غبي.

2 comments:

teen eagle said...

عجبتني بشدة ... فعلا
دي سنة الله في خلقه ... في أي حدث بطولي لاي شعب عبر التاريخ
كان الابطال أقلية تثير اشمئزاز الاغلبية التي تؤثر حياة الخنازير
و لو انهزم أولئك الابطال تنهال عليهم قاذورات أفواه الراقدون فوق الكنب

Anonymous said...

و بالمثل كلمة ديمقراطية التي تعني حكم الشعب تحولت الى حكم ممثلين عن مجموع الناخبين فقط من الشعب و الذين ينقسمون الى قسمين: مجموعة منتفعة من مولد الانتخابات ماديا، و مجموعة لا تدري ان اقصى ما يستطيعه البرلمان ان يقدم اكبر عدد من طلبات الاحاطة دون تفعيلها.

وفي الوقت الذي يثور فيه جموع الناخبين في الدول التي استوعبت كذب تجربة الديمقراطية النيابية، يهرول "الاصلاحيون" الى انتخابات لم يدعو اليها أملا في تقديم طلبات احاطة جديدة تضيف الى سجل نضالهم المشرف الغير مفيد على الاطلاق.

هاني مصطفى