Pages

دليفري للبهوات

Saturday, January 18, 2014

أصول الملامسة



اليد باردة ومنتفخة. تحسستها محاذرا أن أحرك الكانيولا التي أصبحت جزءً من نسيجها، وستتقادم غدا ليبحثوا عن مكان آخر لها.
أتحسس اليد ممتنا بعد ليلة مجنونة قضيناها سويا في أروقة وغرف تؤدي إلى العناية المركزة.
أتذكر علاقتي بهذه اليد، باطن الكف في الحقيقة، منذ سنوات بعيدة، عند عودته من الحج، كنت أنتظره عند حاجز المطار، وأرى العيّال ينطلقون نحو ذويهم بمجرد رؤيتهم من بعيد، في تواطؤ واضح من الحواجز التي تتسع قضبانها لجسد طفل دون الثامنة، مع موظفي الأمن والأهل أيضا.
عندما جاءت اللحظة، قمت بما يتوجب عمله، جريت حتى وصلت إلى ذات الكف، كانت في مستوى رأسي. كانت هناك تربيتة على وجهي احتوته بالكامل، لكني شعرت بالسخافة وأعدت بصري للجمهور المنتظر.
قالت أمي في أسبوعها الأخير إنها نادمة لعدم اعتيادها على تقبيل أولادها وأن تتحسسهم. كنا 3 ذكور، ولسبب ما صرنا جميعا متحفظين، وفي واحدة من زياراتي الأخيرة لها ترددت قليلا وأنا "أطبع" قبلة على جبينها، وعرفت هي ذلك، ونقلته إلى خالتي.
كانت هناك قبلة واحدة طويلة على جبينها، صادقة وغير مترددة، لكن الأم لم تكن حية لتدرك هذا.
في جلسة لاحقة، بعد عدة سنوات، نفس الخالة شعرت بأنها بحاجة لمعانقتي وشقيقي؛ نفس التردد، وكأنها تطبع العناق.
عندما أدخل البيت يكون في انتظاري ولدين في ارتفاع كفي، أحدهما، على الأقل، يدرك وصولي قبل حتى أن أصل إلى الباب، يتلقيان تربيتة الكف بسعادة، ويبادلاناها بتقرير الكوارث اليومية، وهو شيء لم أكن أجرؤ على فعله.
يقول أحدهما إنه لا يريد أن يصبح عجوزا مثل جده، هو يريد أن يصبح مثلي وليس أكثر. نفس الفكرة كنت أعتقد بها منذ وقت قليل، أنني لا أكبر، حدث هذا منذ ثانية واحدة على الأقل.
كان جدي رجلا مهيبا، ينقصه كلاشنكوف ليصبح أحد المجاهدين الأفغان كما وصفه صديق لي، لكن سر مهابته عندي كانت في طوله، كان طويلا لدرجة إعتقادي لفترة أنه يقطع أي مشوار في خطوة واحدة، بينما ألهث أنا للحاق به. في المرات القليلة التي أمسك فيها بيدي، كنت أتعلق بها، حرفيا.. خاصة تلك المرة التي تهت فيها بمحطة القطار.
تحكي خالاتي أنه كان رجلا قويا ومخيفا، قبل أن يتحول إلى طفل بريء بين أيديهن في أيامه الأخيرة. كنت أصافح يده النحيلة التي امتلأت بالنمش، وأراقب جسده وهو يغوص في السرير حتى صار أرق من البطانية التي تغطيه.
أتذكر أول لمسة يد مع فتاة؛ لم أشعر بشيء، وعندما تكرر الأمر مع يد أخرى، قلت لنفسي إن الموضوع مبالغ فيه، ولم أقل لهن هذا بالطبع.
ومنذ سنوات، قابلت فتاة غريبة الأطوار تمارس التدليك للأطفال الرضع، زميلة لي رفضت الفكرة ووجدتها منحرفة، وكنت أتمنى أن أصور رفضها بالهيستيري، لكنها في الحقيقة رفضت الفكرة بحسم، قالت فقط إنه "شيء خاطئ"، وانصرفت.
ولا أحتاج لتدليك فردي النينجا هؤلاء في البيت، فمزاحنا حيواني يليق بقطيع من الذئاب، ويتألف معظمه من العض الهين. أما عن التدليك، فهو موجود، عندما يقفان فوق ظهري لمطاردة العضلات المرهقة. الصغير بمجرد أن يتمالك توازنه فوق ظهري، فإنه يقفز عليه بطريقة تكفي لبعثرة كل نقاط الشاكرا العزيزة.
ثم يطالب بأن أحمله "حليب يا لبن"، ثم دور آخر للأكبر، وآخر تعويضي للأصغر صاحب الفكرة.. وهكذا.
أتوقع النصف الثاني من الدائرة: الولد الصغير، وهو الأكثر ودا في قطيع الذئاب الصغير، بعد سنوات، عندما تتصاعد من تحت إبطه الرائحة الشهيرة وهو يمر بالصالة مرتديا الفانلة الحمالات التي تكاد تنفجر بسبب عضلاته البارزة، يقابلني وأنا في رحلتي اللحوحة إلى الحمام، بمثانة محترقة، أقف وأنظر له بمعنى أنني أطلب مساعدته وأستكبرها في نفس الوقت، وتمر ثانية طويلة، قبل أن يمد يده إليّ، مترددا.. وأتلقاها ممتنا.
أمتلك كفا ضخما، في الحقيقة قابلت شخصا واحدا فقط يمتلك كفا أضخم مني، وهو ليس أبي بالمناسبة.
وعليّ أن أعترف أنه كف ناعم ومرفه، أقصى خشونة له قد تأتي من ممارسة الرياضة، وعندما خرجت زوجتي من غرفة العمليات بعد الولادة، وهي تحت بقايا تأثير التخدير، سألت عني، فقالوا لها إنني أمسك بيدها الآن، ومن تحت طبقات المخدر أصرت أن هذه ليست يدي. كانت يد خالة لها تداعبها.
تكتسب أيادي الأمهات المخضرمات خشونة من كثرة التعامل مع الماء وغسل المواعين.
وفي أوقات أخيرة، عندما يعجز الكبد عن الاستمرار بمهمته، ويصبح الجسد أغبى من أن يقوم بتصريف السوائل الزائدة، فإنه يحتجز المياه في تجاويفه، ويصير الجلد مشدودا، والبشرة بلاستيكية ناعمة. تنتفخ الأطراف، ورغم تسارع ضربات القلب تصير باردة.
أعود إلى اليد الباردة المنتفخة، وأتمنى أن أوصل لها بعض الدفء قبل أن تبرد يدي أيضا.

-        نُشر هذا كمقال في بوابة الشروق بتاريخ الخميس 16 يناير 2014، مع تعديلات للمدونة

No comments: