Pages

دليفري للبهوات

Monday, February 28, 2011

أوراق ملكية الثورة: أين كنت يوم 28 يناير؟

بطبعي لست شخصية احتفالية، أميل للتفاعل مع المصائب بشكل أفضل اجتماعيا من الأفراح. بشكل مختصر: أنا أواظب على حضور الجنائز وأتملص بكل قوتي من الأعراس وأعياد الميلاد كأني أهرب من الشيطان.

عندما أعلن مبارك بشارة التنحي، كنت خارجا لتوي من صلاة المغرب، وإذ بالدنيا تضيء فجأة كأن الأهلي أحرز هدفا ذهبيا في الزمالك في نهائي كأس العالم للأندية (تشبيه ظريف يفترض دخول الزمالك لكأس العالم بدون إلغائه)، جريت إلى المقهى القريب لأسمع الخبر من عمر سليمان الذي اكتسب مهارات تمثيلية لا بأس بها خلال أيامه المعدودة كنائب رئاسي.

رواد المقهى تركوا بطولة الجائزة الكبرى للطاولة وقفزوا في الهواء بفرحة، القهوجي كان حزينا لأنه أحب مبارك (لكنه سينساه خلال ساعات قليلة. هذا ما حدث)، صديق لي كان غاضبا من تسليم السلطة للعسكر، شقيقي الأصغر فرح بدون مبالغة وهو ينظر لي.. كنت محايدا بغصة غامضة في حلقي لا علاقة لها بالعسكر، الحقيقة أنني بعد ساعات اكتشفت أني غير سعيد بالمرة، ثم أصبحت عصبيا وتشاجرت مع زوجتي حول من منا الذي نسى زجاجة زيت عباد الشمس في السوبرماركت (الحقيقة إنه أنا)، أنقذني صديق اتصل بي قبل منتصف الليل يعرض عليّ أن نذهب لميدان التحرير.

أثناء انتظاره، بدأت أدرك أنني فعلا حزين على رحيل مبارك، أنا لست من نوعية "آسف يا ريس"، وآخر مرة ذهبت لميدان مصطفى محمود كانت في 28 فبراير، لكن رحيله كان يشبه مصرع سونيا جراهام أثناء أول 70 رواية من مغامرات أدهم صبري (بعد ذلك تزوجها ابن المحظوظة)، أو أن يعلن الجوكر تقاعده أمام الوطواط، وكأن أتباع عاشور الناجي في ملحمة الحرافيش خرجوا للشارع وهجموا على بيت الفتوة حسونة فوجدوه قد اعتزل الفتونة ورحل لشرم الشيخ.

شخصيا، لست ببطولة الوطواط حتى أقارن مبارك بالجوكر، لكن جزء مني اعتاد على مقاومة ذلك العجوز العنيد الفخور بطول أنابيب الصرف الصحي في عهده، كنت متعهد المعارضة في عائلتي وهو ما منحني مركزا ممتازا وسط أقربائي كأني الوحيد فيهم الذي يفهم بالسياسة (في الحقيقة أيضا كانوا يعاملونني مثل المجنون). وجود مبارك كان يدعمني ذاتيا بفكرة أن أتسلل ليلا لمدونتي المجهولة لأقوم بفريضة نقده علنا على الفضاء السايبيري الضيق.. كنت في الأيام الأخيرة مقتنعا بأن مبارك ليس أكثر من مقاول أنفار يدير شركة مساحتها مليون كيلومتر مربع ويبلغ عمرها 7 آلاف عام.

مبارك كان كالوحمة التي تلازمك بعد الولادة، تذكرك دائما بما كان ينقصك، ستتحمل بعض الألم للتخلص منها، وتشعر بعدها بأن الوحمة هي ما ينقصك الآن.

والآن، لقد أصبح الكل معارضين، الكل ثوار، الكل أصحاب مواقف. وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

يُقال أنه عندما تشير لأحد بأصبعك، فإن باقي أصابع يدك تشير بها لنفسك. في ميدان التحرير كنت أدور مشوشا، كنت أرفع كاميرا الفيديو لأبدو منشغلا عن الفرحة التي غرق بها الجميع (فعليا، لا مبرر للتصوير لأن اليوتيوب قام بكل شيء)، ثم قابلت شابا في مخيمات التحرير يصرخ بي: "صور.. صور! إحنا اللي جبنا لكم الثورة، بقى لنا هنا 18 يوم عشانكم".

فكرت أن أعود له لأذكره بأنها ليست ثورة السيدة أمه حتى يذكر الشعب كله بأفضاله علينا (الحقيقة أنه لا أحد بات في الميدان 18 ليلة لأن الاعتصام دام 13 ليلة فقط، الثورة نفسها دامت 16 يوما)، تراجعت عن الفكرة لأني كنت أبدو فعلا كأحد السائحين الذين نزلوا الميدان لالتقاط الصور التذكارية، وهو لن يفهمني على كل حال. كان هذا إصبعي الذي وجهته إليه، بقية الأصابع كانت تشير لي وتقول: ألست أنت أيضا مثله؟

ذلك الشاب لم يكن يغضبني شخصيا، في الحقيقة كنت أكتشف أن أكثر المتعصبين للثورة هم الذين شاركوا فيها متأخرين، المصريين بالخارج كانوا عصبيين ومتطرفين أكثر من حملة المولوتوف في اللجان الشعبية. لي صديق كان مريضا وكان يرى وجوب قتل مبارك وعائلته.. بشكل ما كان الكل يبحث عن أوراق ملكيته للثورة، إذا كان الرجل ذو اللحية البيضاء الذي يكتب التاريخ لم يسجل مشاركتك فعليك اللعنة، ويجب أن تعوض هذا بالمزيد من التعصب والرغبة في الانتقام.

في الأيام التالية أمسكت نفسي قبل أن أقارن كرنفال التحرير (فيما عدا يوم الأربعاء الدامي) بمظهر عشرات القتلى والمصابين على كوبري قصر النيل عصر يوم 28 يناير. استيقظت في ليلة على صوت خيالي للمئات من جنود الأمن المركزي وهم يصيحون ويدقون بأحذيتهم على الأرض، ثم أخذت أبحث عن صور المظاهرات، محاولا العثور على نفسي وسط الجموع (قرب، قرب أكثر، حرك الصورة لليسار.. أترى هذه الكتلة السوداء اللامعة بجوار الكتلة السوداء المعتمة؟ هذا هو أنا بنسبة نجاح تصل إلى 14%). كنت أنا أيضا أبحث عن أوراق الملكية عبر التقليب في آلام ذلك اليوم. أرجوكم.. إذا قابل أحدكم رجل التاريخ فليوصيه بي قليلا.

بدأت أقتنع أنني فعلا كنت من مريدي الشيخ مبارك الذين قبعوا في البيت برعب يوم جمعة الغضب. في ذلك اليوم قابلت ناس كثيرين لا أحبهم في الواقع، لكن يومها وجدتني قد نسيت كل خلافاتي معهم، في الحقيقة أصبت بلوثة حب فجائية تجاههم، وقضيت الأيام التالية أطمئن عليهم بالتليفون كأنهم أخوتي الصغار الذين يتعرضون لحادث ما.

والآن، الآن.. اتصلت بي صديقة تعبر عن إحباطها لأن المستوى الاجتماعي للثوار أصبح دون مستوى يوم الجمعة، التليفزيون يمتلئ بوجوه كانت تعارض على الهادئ مسبقا لكنها الآن تتشدد وتدفع كل شيء لحافة الهاوية (لقد كنا طوال الشهر الماضي على هذه الحافة لكن هذا لا يبرر الرقص عليها مع ملايين الغاضبين). لا أريد أن يكتب الخوف والتشكك والتشدد الصفحة الأخيرة في ثورة سيكتب رجل التاريخ عنها في الكتاب المقرر على الإعدادية أنها ثورة تستمد اسمها من تاريخ وليس أسماء البشر، ولا فضل لتحريري فيها على ينايري إلا بالتقوى.

2 comments:

بحلم said...

استمتعت كثيرا بقراءة هذا المقال
اسمح لي بنقله

Unknown said...

أثني على صراحتك... كما أثني على أسوب سردك الجميل... أحسنت