يتكرر الموقف بكل دقة كما لو أنه من المقصود به أن يتكرر.
كنت عائدا من الميدان، وعلى بعد أمتار من منزلي قابلت أونكل فلان، إنه واحد من أونكلات العائلة الذين اخترقوا الخمسينات من أعمارهم بكل همة، وبالإضافة لكونه أونكلا مخضرما، فإن ذكرى أنني كنت أنتظر العيدية منه في الأعياد البعيدة.. تحيطه بهالة واقية تحميه من انفعالي ضده. من حسن الحظ أن أونكل لن يقرأ هذه المدونة، أو هكذا أتمنى.
سألني الأونكل عن صحتي والحال والأولاد، ولاحظ التعب الذي يبدو عليّ فقال "شكلك راجع من الميدان" فأجبت أن نعم، فبادرني بالسؤال عن الأحداث الأخيرة، وقبل أن أجيب بادرني بسؤال آخر: "إيه اللي بيعملوه ولاد القحبة دول؟". كان هذا سؤال على المستوى الفني فقط، من حيث الصيغة وأدوات الاستفهام والعلامة في آخر الجملة، لكنه كما هو واضح يصيغ رأيا بغرض أن يتفق المستمع معه أو يرفضه، لكن المبادرة نفسها تؤكد أن الأونكل يسعى فقط لانتزاع اتفاق قهري من شخص يعرف جيدا عدم اتفاقه مع رأيه.
تعللت بأني متعب والموضوع طويل، لكن الحقيقة أنني قررت منذ زمن أنه لا فائدة من مناقشة الأونكلات. في اليوم الأول من فبراير، كنت عائدا من الميدان سيرا على الأقدام، وهي مسافة تزيد عن 15 كيلومتر، مررت خلالها بخمسين لجنة شعبية على الأقل، وقبل منزلي بخطوات، قابلت أونكل آخر سألني باستنكار عما أريده بعد أن تفضل الرئيس بتغيير 12 وزيرا مرة واحدة، كان موقفي مشوشا تجاه تنازلات مبارك وقتها، كما أني لم أعرف تفاصيل التغيير الوزاري، إضافة لمعرفتي بعدم جدوى مناقشة الأونكلات، وحاولت الانسحاب التكتيكي بالطريقة المعتادة، لكنه أصر على استفزاز الثائر العصبي الذي بداخلي، وكانت النتيجة أزمة عائلية تطلبت جهودا وتنازلات لترميم صدعها، وأزعم أنه لا يزال ممتدا في عمق النفوس.
أعرف 5 أونكلات على الأقل في عائلتي مستعدين لإبراز آرائهم الهدامة في كل منحنى تقابله الثورة، إذا اختل الأمن سبّوا أم ميدان التحرير على من فيه، إذا طال طابور الخبز لعنوا شهر يناير ومن ثاروا فيه، إذا اهتزت البورصة (وهم ليس لهم بها ناقة ولا سهم) ضحكوا بثقة وقالوا أننا خربنا البلد. عندما أراجع الماضي القريب قبل الثورة، أتذكر أن اثنان من هؤلاء الأونكلات كانا يدعمان بشدة تصدير الغاز لإسرائيل (حتى عندما حاولت اللعب على الوازع الديني لديهما)، واحد منهما غضب بشدة عندما عرف أنني لم أنتخب زكريا عزمي في الانتخابات الأخيرة، كلهم معترضين على الغلاء و4 منهم يشعرون أنهم يتعرضون لظلم بيّن في أعمالهم، لكنهم جميعا ضد أي تغيير يطول مواقعهم في العمل أو مواقع رؤسائهم، وجميعهم ليسوا أعضاء في الحزب الوطني أو غيره، وهم غير فاسدين لكنهم ضد كشف الفساد الذي زكم أنوفهم، يصلون ويحجون ويكرهون فلسطين (لأنهم باعوا بلدهم على حد قولهم) والأخوان المسلمين والمظاهرات والإضرابات.. ولقد زادت رواتبهم في الأيام الماضية نتيجة للثورة (كلهم عاملون بالحكومة والقطاع العام).
يتميز كل الأونكلات، سواء في عائلتي أو أي عائلة أخرى، بثقة لا متناهية في أنه لا شيء يتغير، وأنه لا داعي للتغيير، وأن ما يعرفونه أفضل مما لا نعرفه، وأنهم يعرفون كل عناصر المعرفة الرئيسية اللازمة لهذه الحياة.
لقد عاش معظم هؤلاء عمرهم في عهود حملت بقايا الرخاء، كما أنهم عاصروا موت طاغية، ونشوء طاغية آخر، لقد تمرغوا في خير القطاع العام، ثم تسلوا بالثرثرة عن الفساد الذي نخر أساسه حتى تخصخص وانهار أمامهم فكتموا ثرثرتهم خوفا وطمعا، لقد ذهبوا بالملايين (في حافلات حكومية) لانتخاب مبارك وأعوانه وزبانيته وكانوا مستعدين لتكررا هذا إلى نهاية التاريخ، رغم أنهم لم يتوقفوا للحظة عن النظر بحسد لرجال النظام.
منذ أسبوعين كتب صديق لي مدونة عن هؤلاء الذين ليسوا فلولا وليسوا ثوارا، ودعانا للتفكير في وسائل للتعامل مع هؤلاء، أتذكر أن أفضل اقتراح كان أنه لا توجد طريقة وحيدة للتعامل معهم جميعا، وهي مفارقة مضحكة أن نستخدم معايير فردية للتعامل مع ناس يرفضون أي تفكير فردي وينفرون من أي عمل جمعي.
الناس على دين حكامهم، بمعنى أن الحاكم ينشط في شعبه صفات معينة ويحبط أخرى، بغرض أن يكونوا أسلس في القيادة. في حالتنا هذه عمد مبارك ومن قبله على تنشيط صفات الجبن والاتكالية والغرور واستمراء الجهل واستسهال الحسد، وأحبط الشعور بالكرامة واحترام الذات وحب العلم والعمل الجماعي. اعتدت أن أنتظر خطبة عيد العمال في كل عام، وأعترف أنني كنت أفضل تلك اللحظات النادرة التي كان فيها مبارك يلقي بالأوراق المكتوبة جانبا ثم يرتجل بطريقته القروية ويكشف لنا كم صرف على الصرف الصحي ودعم الخبز، ثم يلطف حديثه بمزاح ثقيل عن عدم قدرتنا على تنظيم النسل. كان مبارك (بدون وعي غالبا) يذكرنا دائما بأننا كائنات لا تتوقف عن التهام الخبز والتكاثر وتتعمد إغراق نفسها بالنفايات. كان يبرز أسوأ ما فينا ويركز عليه حتى لا نعرف أنفسنا بدونه. في عهد مبارك ظهرت لأول مرة أفكار أننا شعب لا يصبح للديموقراطية أو حكم نفسه.. ولقد كان الأونكلات شركائه في هذا طوال الوقت.
ليست مشكلتي أنكم تركتموه يحولكم إلى كائنات تقضي حياتها في الاستهلاك وتأمين أي احتمالات للمستقبل، ليست مشكلتي أنه شوه آلية إحساسكم بالعدل والخير والجمال. أتساءل حول موقف أونكل الأخير، هل كان سيعتبر أن الموجودين في الميدان أولاد قحبة إذا كان قد فقد أحد أبنائه على يد الشرطة (سواء كان ثائرا أو مسجلا خطرا أو حتى تصادف مروره أمام أحد أقسام الشرطة)؟ هل كان سيظل متظاهرا بالتعقل إذا مرت 6 أشهر بدون إدانة أو تحقيق جدي مع قتلته؟ كيف كان سيتصرف عندما يذهب للمحاكمة فلا يجد فرصة لرؤية المتهمين في القفص ثم يغادر هؤلاء المحكمة بدون أن يرى في عيونهم نظرة ندم أو خوف من المصير؟ ماذا سيكون رد فعله عندما يتصل به أحدهم ليساومه على دم ولده أو يهدده؟ وفي النهاية.. كيف سيتصرف عندما يتهمه أحدهم بأنه زوّر شهادة ابنه ويصفه آخر الأمر بأنه ابن قحبة؟
الحقيقة أن الثورة قامت بدون طلب موافقة هؤلاء الأونكلات، وهم كانوا ضدها قبل قيامها بعشرات السنوات، ولم يهدأ توقهم للقديم إلا بانقلاب موازين القوى فهادنوا الثوار حينا حتى مرت العاصفة ليعودوا إلى سيرتهم الأصيلة (المدون الطبيب محمود عزت كشف كيف منع كبار التجار في بولاق مرور الدواء والغذاء عن الجرحى في التحرير، لكن يمكن الآن رؤية لافتات تأييد الثورة هناك)، لقد خوفونا بمقولة أن البلد تكاد تضيع حتى اضطررنا للهدوء في منتصف المشوار وتركنا المسيرة لوزراء ومجلس عسكري يرضون هم عنه مهما حدث، وسيظلوا هكذا حتى ينقطع الحبل السري الذي يربطهم بنظامهم الفاسد، ولن تُجدي محاولات استرضائهم أو تحليل ما يدور بعقولهم.
لكن هناك مشكلتان، الأولى أن هذا الكلام يبدو إقصائيا، وكأني عندما أكتبه أصبح في نفس درجة تصلبهم، ومع هذا لا أعتبر أن تجاهلهم هو إقصاء لهم، فليؤسسوا حزبا للأونكلات الرافضين لعيال الفيسبوك، أو يضعون كلمة ائتلاف على أي جملة غير مفيدة تخفي تذمرهم ثم يتكالبون على السياسة. أنا لن أزوّر إرادتهم ولن أسجن وأرشوا قادتهم كما كان يفعل نظامهم الحبيب. كل ما أريدهم هو إبراز تناقضاتهم للحد الأقصى، لعلهم يعقلون ويعدلون.
المشكلة الثانية أنهم طائفة مؤثرة في أي تصويت مقبل. تماما مثلما حدث في استفتاء الدستور الأخير، لقد قيل أن الشعب صوّت على الأمان والاستقرار، وها نحن نرفل فيهما كما ترون (مثال: أحداث إمبابة، وانتخابات الرئاسة في نهاية 2012، هذا إذا تمت)، فلماذا لم يغير الشعب رأيه؟ الحقيقة أن هذا لم يكن الشعب، 14 مليون فقط وافقوا على التعديلات (أعرف أننا كنا أقل من هذا في الثورة، استمر معي قليلا)، والحقيقة الثانية أن التآلف غير المعلن بين الأونكلات (في الأحزاب والجماعات والمصالح الحكومية ومترو الأنفاق) صوّت ضد الثورة ولصالح السلطة الآنية كما اعتادوا أن يفعلوا طوال عمرهم (علما بأن الأونكلات ليسوا 14 مليونا لأن هناك من صوّت بلا للخلاص من العسكر). لا يوجد قانون إنساني يمنعك من أن تفعل هذا، لكني أردت أن نكون واضحين، هؤلاء الأونكلات لا يوجد لديهم أحب من مبارك إلا الاستيلاء على ثروته توزيعها على أنفسهم، علاقتهم بالسلطة هي متوالية مريضة للخوف والكراهية والحسد.
هناك وسائل عديدة لردع (اللفظ متعمد) ائتلاف الأونكلات في أي تصويت قادم، هل تعرف مثلا أن الكتلة التصويتية الأكبر تقع بين 19 و34 سنة؟ هذه الشريحة وحدها تعادل تأثير المجموعة الموجودة بين 35 و89 سنة، علما بأن الأونكلات ليسوا أغلبية هذه المجموعة، هل تعلم أن النساء (أيا كان عمرهن) أكثر تقبلا للتغيير عن الرجال وهن أقل تعرضا لمفاسد النظام السابق؟ هل تعلم أنه في كل عام يكسب الشباب مليوني صوت في الكتلة الانتخابية؟ وهل تعلم أن الصعيد حتى الآن يشاهد ما يحدث بحيادية؟ بالإمكان العمل على معرفة مطالب كل هذه الكتل الأخرى والتوافق عليها، وفي النهاية سمعة الأونكلات سيئة جدا عندما يتعلق الأمر بحقوق الفقراء ومصالح الفلاحين والطوائف المختلفة عنهم لأنهم كانوا دائما يدافعون فقط عن استقرار رواتبهم وليذهب الآخرون للجحيم، ورغم أنك ستجد الأونكلات داخل طوائف مثل الأقباط ونقابات العمال مثلا، لكن لهجتهم المزعجة ستنقلب عندما تخاطبهم كجماعات وليس كأفراد، فهم لم يعتادوا العمل الجمعي.
في النهاية، لا أحب أن أواري موقفي الحقيقي وراء ما يبدو كتحليل محكم. لقد كانت هذه ثورة شباب (حتى لو خجلنا من هذا وحتى لو شارك بها بعض العقلاء الكبار)، ضد مجموعة من العجائز المتهالكين الذين دفعوا البلد إلى حافة الهاوية من أجل استمرار مزاياهم، وهي حرب، فعلا، لا يجب التهاون فيها، فالفاسد مكانه السجن، والمتواطئ مكانه البيت، ومن بينهما، فليقل خيرا، أو ليصمت. المستقبل تقع علينا مسؤوليته، نحن من سنجني ثماره أو نعاني من كوارثه، وأثبتت الأحداث أننا الأجدر بهذه المسؤولية، وكفاهم ما فعلوه بأيامهم الماضية.