لماذا تسبب قرار وقف عرض فيلم
"حلاوة روح" في كل هذا الجدل؟
بالتأكيد ليس لكون بطلته كائنا مثيرا
للجدل بحد ذاته، ولا منتجه، الذي اشتهر بمثل هذه النوعية من الأفلام. الحقيقة أن
هذه عوامل ثابتة في الموضوع، "هيفاء وهبي" اعتادت وعودتنا أن تكون هكذا،
والسبكية اعتادوا وعودونا على هذا. ما هو الجديد إذن؟
الجديد هو أن الفيلم تم وقفه بقرار
إداري من رئيس الوزراء، بدون أي محاولة لتكييف القضية قانونيا. رئيس الوزراء، الذي
لم يأت عبر أي آلية ديموقراطية، استخدم فقط صلاحياته كرأس للسلطة التنفيذية، مخترقا
مادة واضحة في الدستور تتيح حرية التعبير.
لكن كلنا نعرف أن الديفا اللبنانية
والمنتج الشعبي لم يكونا يختبران حدود حرية التعبير، بقدر ما كانا يستغلان
هوامشها، لتحقيق نجاح وربح. هذا هو ما يضيف التوابل والطعم المميز للقضية، كون
الطرف المعتدى عليه، هو مخطئ من البداية، مع ما يفرضه هذا علينا لاحقا من انحيازات
عصبية، أو تغيير لانحيازات استقرت سابقا.
المسألة بكل بساطة، وكما طرحتها
الصحفية "دعاء سلطان": اليوم سيكون "حلاوة روح" هو الضحية، وغدا يتم
منع فيلم لـ"داوود عبد السيد" (مثلا)، وطالما تغاضى المجتمع عن استخدام الإدارة
لهذه الأداة الخطرة بسبب مثير جنسي، يكون هذا تصريحا باستخدامها سياسيا باتساع.
لكن الخيارات ليست سهلة بالنسبة لأهل
الفن، فلقد استطاع هؤلاء تجديد صورتهم التي تشوهت أيام مبارك، وخلال أيام الثورة
المربكة، واستقر الأمر بصورته الجديدة على كونهم منارات تحررية في مواجهة جحافل
الظلاميين الإسلاميين، بكل خططهم الخبيثة ضد الفن والثقافة، لكن المشكلة الآن أن الدولة
المدنية الحديثة هي التي تمنع وليس الإسلاميون.
ولا يعني هذا أن أهل الفن سيتحدون من
أجل الدفاع عن السبكي، حيث يضعهم هذا في مواجهة الدولة التي اجتهد الكثير منهم في
دعمها واتهام معارضيها بأنهم إخوان وخونة وعملاء. السبكي نفسه لن يغامر بأي اعتراض
ضد قرار رئيس الحكومة، وربما كان أول المرحبين بقرار الوقف، فالفيلم لم يكن أداؤه
رائعا في شباك التذاكر، والمنع سيزيد من أرباحه في سوق التليفزيون. هو رجل يترك أحشاءه
في السوق ولا يقوى على تحدي الدولة.
==================
يحاول المتصارعون صبغ المجتمع المصري بألوانهم السياسية، فمرة يكون متدينا، للتأكيد على صحة اختياره للإسلاميين، ومرة يكون متطرفا ومتخلفا للتدليل على سوء الاختيار، ثم يصبح متسامحا ووسطيا، محبا للفن والانبساط، متحررا، جاهلا، ومثقفا ثقافة عميقة لا نفهما إلا في أوقات الانتصار.
يحاول المتصارعون صبغ المجتمع المصري بألوانهم السياسية، فمرة يكون متدينا، للتأكيد على صحة اختياره للإسلاميين، ومرة يكون متطرفا ومتخلفا للتدليل على سوء الاختيار، ثم يصبح متسامحا ووسطيا، محبا للفن والانبساط، متحررا، جاهلا، ومثقفا ثقافة عميقة لا نفهما إلا في أوقات الانتصار.
الحقيقة أن كل هذا صحيح، الناس في مصر
يعيشون في مجتمعات وليس في مجتمع واحد متحد وكبير، كما أننا جميعا مختلفون فرديا،
وفي النهاية، كلنا نحسن القول ونتبع أسوأه. بعضنا قاطع الفيلم، وبعضنا وقف يهرش
أمام السينما في تفكير عميق، آخرون ينتظرون تحميله ومشاهدته خلسة، بعضنا يرغب في
إحراق بطلته كالساحرات، وبعضنا ينظر لها بحسد حارق.. وهناك من يمر بلا مبالاة.
لكن هذا المجتمع لم يكن له أدنى تدخل
في محتوى الفيلم، ثم الموافقة على عرضه، ثم منعه. ورغم كون المجتمع هو الممول
الحقيقي لعملية إنتاج فيلم وعرضه ثم فشله أو نجاحه، تمر هذه السلسلة بدون أدنى
تدخل منه.
==================
الرقابة ضرورية. قلتها بصوت خافت في
وقت ما من سنة 2012، كانت الحملة ضد الإسلاميين وقتها حماسية، قول كهذا كان كافيا
لنفي صاحبه بعيدا عن شمس التيار المدني الدافئة.
كنت قد بدأت في كتابة هذه التدوينة
منذ عام، ولاحظت لمزات واتهامات فلم أنشرها في وقتها، وها هو فيلم عديم الأهمية
يفتح الموضوع على اتساعه.
سقف التوقعات وقتها كان اقتباس النظام
الأمريكي والأوروبي في تصنيف الأفلام، وهو نظام يضع تقييمات لمحتوى الأفلام حسب
عمر المشاهدين ودرجة احتياجهم للرقابة الأسرية حسب الرموز التالية.
G: جمهور عام، وفيها لا شيء يثير قلق الآباء، مثل معظم أفلام
التحريك للأطفال.
PG: من الأفضل أن تصاحبوا أطفالكم في هذا الفيلم، فهناك محتوى
"ربما" لا تحبون أن يراه أطفالكم.
PG-13: تحذير قوي للآباء من خطورة بعض المواد على الأطفال قبل سن 13
سنة.
R: يحتوي على مواد للكبار ولا تناسب الأطفال.
NC-17: غير مسموح بمشاهدته للمراهقين أقل من 17 سنة.
كما هو واضح، فإن هذا التصنيف يعتني
بالمشاهدين الصغار تحديدا، وهو ما يختلف عن حالتنا التي نسأل فيها أسئلة محورية
أخرى حول أهلية الكبار أنفسهم في المشاهدة، يضع نظام التصنيف المسؤولية على
الآباء، وتتدخل دور العرض أحيانا في درجات التصنيف المتشددة بمنع المراهقين من
المشاهدة.
إذا اقتبسنا النموذج،ستبرز عدة مشاكل
أخرى في نظام التصنيف، أولها هي: من سيصنف؟
إذا قامت الدولة بالتصنيف، فهذا وضع
لا يختلف عن وضعنا الحالي، فقط سنضع الرقيب في تعقيدات أكبر لفصل الأفلام التي
تحتاج موافقة أبوية عن تلك الممنوعة للأطفال.
في أمريكا تتولى التصنيف
"المنظمة الأمريكية للأفلام" (MPAA)، وهي منظمة تتكون
من أكبر 6 ستوديهات هناك، باختصار تلك الاستوديوهات تحتكر صناعة السينما، وتعتبر
تصنيفاتها إحدى أدوات تكريس الاحتكار والسيطرة، وهو ما لا يتعارض غالبا مع مصالح
الأسر التي تهتم بهذه التصنيفات، بل تضغط منظمات أهلية محافظة لزيادة صرامة
التصنيف أو تضييق مجال عرض أحد الأفلام. لا نشعر بهذه الاحتكاكات لأن لكل طرف
مصلحته عند الآخر، وفي النهاية، قد يتواطأ الأقوياء لفرض تيار رئيسي ضد المختلفين،
لكن اتساع المشاركة، واختلاف المطالب والأهداف، كفيل بترسيخ معادلة هادئة يتنازل
ويربح فيها الجميع بنفس الوقت.
المشاركة الأقل، تعني سيطرة أعلى
لأباطرة الصناعة في أمريكا، أو الدولة إذا ما اقتبسنا نفس النموذج في وضعنا.
لكن وحدهم المتطرفون يسعون إلى تضخيم
الاحتمالات العجيبة؛ الإسلاميون المتشددون يحذرون من تحول دور العرض إلى مواخير
تعرض أفلام البورنو، وأنصار التنوير الإجباري يرون أن المجتمع سيميل طوعيا لنسخة
قناة الناس، يستخدم الطرفان استقطابات قديمة ومعتادة، ولا يفيد هذا إلا الدولة
التي تزايد على الجميع في نفس الوقت: هي حامية الدين والأخلاق، محاربة التطرف،
راعية الفن، وقامعة الحريات.. على أن ينظم القانون ذلك، كما تقول العبارة الدستورية
الشهيرة.
إذا أردنا الوصول إلى معادلة مستقرة
للإبداع الفني، بدون العودة إلى فوضى الحسبة التي نتجت عن استبعاد قوى المجتمع،
فإنه علينا وضع نموذج خاص بنا للرقابة يكون فيه المجتمع صاحب الوزن الأكبر، بجوار
الصناعة نفسها، على أن يكون وجود الدولة لمجرد التعبير عن رأيها، وضمان الصلاحيات.
تلك ستكون معركة طويلة إذا اقتنعنا
بها من الآن، فالدولة في بر مصر لا ترضى أن ينافسها المجتمع في التنظيم والأخلاق.
==================
وعلى خلفية قضية منع عرض فيلم "Noah"،
كان هناك نقاش مؤجل مع الصديق السينارست "وائل حمدي"، حيث له أكثر من
مقال بخصوص رفض الأزهر لتمثيل الأنبياء في الأفلام. أتفق معه جزئيا في هذا، لكوني
أعتبر الأزهر مؤسسة رسمية تابعة للدولة، وهي هنا تمثل ذراع الأخلاق، بينما أتحفظ
شخصيا على "مشاهدة" ممثلين في دور الأنبياء،
وأرى أن الخيار دائما للمشاهد، فالفرجة تعني أن التمثيل مقبول، والتحفظ ينهي
القضية مبكرا في مرحلة التمويل، وقبل الرقابة.
لكن سيطرة المجتمع على الرقابة أو
التصنيف، تعني بشكل غير مباشر أنه سيكون هناك ضحايا للمنع، فالأداة ستكون جديدة في
يد المجتمع، ولن نصل فجأة إلى معادلة مستقرة، ثم فاجأني وائل بهذا الرد الذي يحمل
جانبا تنظيميا مستقرا لتشكيل هيئة رقابية مستقلة مهمتها التصنيف:
الهيئة يتم تمثيل الفئات التالية بها:
النقابة الفنية (صوت السينمائيين)
غرفة صناعة السينما (صوت المنتجين
والموزعين) وزارة الثقافة (صوت الحكومة) نقابة الصحفيين (صوت الإعلاميين
والنقاد) الأزهر والكنيسة (صوت الدين) ممثلين عن النقابات المهنية الأخرى
والاتحادات العمالية المختلفة (صوت الجمهور).. الفئة الأخيرة يجب أن تكون مساوية
في الحجم للفئات اللي قبلها مجتمعة. تشكيل الهيئة يتم تجديده بشكل دوري، ولها حق
متابعة التنفيذ على الأرض، وقراراتها التصنيفية ملزمة لدور العرض، كما أنها ملزمة
للمحطات التليفزيونية بضرورة وضع تنويه عن التصنيف قبل عرض الفيلم أو المسلسل، عملية
التنفيذ يتم إحكامها عن طريق عقوبات وغرامات مؤلمة للمخالفين.
==================
No comments:
Post a Comment