إنها إحدى ساعات
الصباح المزدحمة بالقاهرة، تعلن المذيعة عن المواجهة المصيرية للمنتخب المصري التي
ستؤهله لكأس العالم، إلا أنك، وبدون إشارة من صناع الفيلم، لا تحتاج لإدراك إلى أي
مدى يبدو المشهد كله معتادا (المواجهة المصيرية وليس الزحام). تضيف المذيعة
للديباجة المعتادة أن القرعة الإفريقية "وضعت" المنتخب في المواجهة، كأنه
مصير لا فكاك منه، ولهذا صار علينا التحسب له في أكثر لحظات تفاؤلنا، وهو ما فعله
المخرج "إياد صالح" بفيلمه الوثائقي القصير، حيث يبدأ الفيلم بصوت
المذيعة كأنها تطرح سؤالا مرعبا، ثم تعود نفس المذيعة قبل النهاية لتعلن نفس
الخبر، وكأن الفيلم نفسه يتحفظ في الحلم، أو هو يتجنب الحديث عنه تجنبا للحسد.
"سنوات الكوّر الضائعة – لماذا لا تصل مصر إلى كأس العالم؟" هو الفيلم الوثائقي السادس للمخرج إياد صالح (بالإضافة إلى كتابة وإخراج الأفلام الروائية والبرامج)، معتمدا على تمويل صغير من خلال شركة "Handmade-Studios"، ومنطلقا من فكرة بسيطة وشعبية بشكل غير معتاد على الأفلام الوثائقية التي تهتم عادة بموضوعات جافة ليست الكرة من بينها، وهي عن ذكريات جيل الشباب الذي عاصر الفشل المتتالي للمنتخب المصري، حيث تحولت هذه الذكريات إلى وسيلة تعذيب مستمرة لهم.
"بعد 24 سنة من طيش رجلين لاعيبة مصر قدام مرمى الخصم، اتحول كاس العالم في عيون الجيل ده لضلع المربع اللي بيكمل بيه المستحيلات التلاتة".. يبدأ الفيلم مرحلته الحاسمة بهذه الجملة، ليلخص مراحل الإخفاق في 5 لقطات أساسية فارقة تمتلئ بالتفاصيل المرة والساخرة:
- طوبة زيمبابوي ومجدي طلبة (1994): بعد الفوز على زيمبابوي في القاهرة، تم إلغاء نتيجة المباراة بسبب ألقاء الجمهور بالحجارة على مدرب الضيوف، وأعيدت المبارة في مدينة ليون الفرنسية، حيث أضاع مجدي طلبة هدفا جرح به الشعب المصري كما يقول "عمر طاهر" (كاتب يظهر كشاهد على الأحداث).
- هدف وايا (1998): في مباراة مصيرية أخرى أمام ليبريا، التي خرجت لتوها من حرب أهلية، ولا يوجد بها إلا نجم واحد هو "جورج وايا" (والذي كان يتكفل بالفريق ماديا وترشح بعدها لرئاسة بلده)، ثم إحرازه هدفا في مرمى عصام الحضري أطاح بنا من التصفيات، وأجبر الحضري على حلاقة شاربه بعدها.
- السعيد / عمارة (2002): إخفاق جديد، أمام المغرب هذه المرة، وأثناء تفوق طاغي للمنتخب المصري، حيث أضاع السعيد انفرادا محققا، ووقتها كان واحدا من أفضل لاعبي مصر، ثم في مباراة العودة يحرز مصطفى حاجي هدفا أسطوريا، ثم في مباراة أخرى يضيع محمد عمارة هدفا في مرمى الجزائر الخالي، ويقول أحمد شوقي (أحد الشباب المشاركين) أن هدفا كهذا لم تكن قطته المنزلية لتضيعه.
- تارديللي (2006): يصف المشاركون أن هذه المرحلة كانت عبارة عن عملية نصب قام بها المدرب "ماركو تارديللي"، وانتهت بتصفيات مهينة أمام منتخبات الكاميرون وساحل العاج.. وبنين.
- أم درمان (2010): الصعود إلى الهاوية، فبعد فترة شعرنا فيها بأننا أفضل منتخب إفريقي، وبعد فوز 4 مباريات على التوالي، وصل الأمر إلى مباراة حاسمة أمام الجزائر في أم درمان، انتهت بهدف صاعق.. للجزائر. لا حاجة للمزيد من التعليق.
تكوين الفيلم كلاسيكي رغم موضوعه غير المعتاد، فهو يعتمد على شهادات مجموعة من الشباب الذين شهدوا الانكسارات الكورية الدورية حتى صارت اعتيادية لديهم وتستحق السخرية، والتجديد هنا هو في إتاحة الفرصة للكلام بصيغة تبتعد عن رسميات الأفلام الوثائقية، مع تدخلات قليلة من مخرج الفيلم في دور الراوي، وبالطبع مع خلفيات متعددة من تسجيلات المباريات.
ينتهي الفيلم بتحفظ على آمال التأهل عن طريق غانا، فبعد استعراض 5 مراحل من الفشل (وآخرها كان قاسيا للغاية في الحقيقة)، يلعب الفيلم على الألم لا الأمل، من حيث كون هذا الألم جماعيا وصالح للتداول حاليا بعد نزع الدسامة منه.
إلا إن الفيلم ليس حزينا، على الإطلاق، هناك لقطات تبعث على الفخر وسط الهزيمة (خاصة خلال مباراة الجزائر)، وهناك انتقادات لطريقة تفكير المصريين والكرة نفسها، وهناك سخرية حارقة لدرجة أن أحد الشباب المشاركين يتكرر عدم درايته بالأمر على الإطلاق (هناك احتمال أن يكون يؤدي دورا مكتوبا)، والمشاركون أنفسهم يتحدثون بجدية عن رغبتهم في تعذيب لاعبي المنتخب على إضاعتهم لكل هذه الفرص، وعنوان الفيلم نفسه مقتبس عن عنوان برنامج "سنوات الفرص الضائعة" لـ"مصطفى الفقي"، وينتهي الفيلم بالشباب يعلنون "بتحفظ" عن أملهم في التأهل، وهي لقطة يكسر جديتها وهشاشتها عبارة ساخرة لأحدهم يطالب فيها الفريق "عبد الفتاح السيسي" بأن يتخذ كل ما يلزم من أجل ضمان تأهلنا.
ويظل الفيلم دليلا على أن كأس العالم صار "ألما قوميا محببا"، فقد تم إطلاقه قبل يومين فقط من مباراة مصر وغانا التي انتهت بنتيجة كارثية (وننتظر معجزة سماوية حقيقية لكي نعوضها في لقاء الإياب بالقاهرة في مساء 19 نوفمبر)، وعكس ما كان يتوقع صناع الفيلم، فقد أظهرت نتائج عرضه على يوتيوب اهتماما متزايدا بالموضوع رغم الهزيمة الثقيلة، حيث جذب الفيديو 170 مشاهدة على يوتيوب في اليومين السابقين للمباراة، ثم قفز الرقم إلى 250 ألف مشاهدة في الأيام الحزينة التالية (حسنا، لم تكن حزينة جدا وانتقلنا كلنا سريعا إلى حالة السخرية والأمل العبثي)، واستمر الاهتمام بمشاهدة الفيلم في الشهر الفاصل بين المبارتين، ليصل الآن، قبل ليلة من المباراة الثانية، إلى 510 ألف مشاهدة.
إنتاجيا، يعني هذا أن أرض يوتيوب على وشك أن تثمر مالا لصناع الأفلام الصغيرة أيا كانت نوعيتها (بغض النظر عن النجاح الاستثنائي للمذيع باسم يوسف الذي نمى نجاحه بمساعدة شركات إعلامية ضخمة)، وأن كرة القدم، والنستالجيا الحزينة المؤلمة، يصلحان لصناعة أفلام ناجحة خارج سيطرة مؤسسات السينما والإعلام التقليدية.
- نُشر المقال في "بوابة الشروق" بتاريخ 18 نوفمبر 2013 بعنوان: شاهد فيلم «سنوات الكوّر الضائعة».. الساحرة التي تعذب المصريين كل أربع سنوات